محمد علي فرحات 

يأمل رجب طيب أردوغان بأن تجلسه الانتخابات التركية في 24 الجاري على كرسي رئاسة واسعة الصلاحيات، فيجدد صورة السلطان في نظام مركزي يسمح بقرارات سريعة تؤمن لأنقرة مصالحها في منطقة كثيرة الحركة سياسياً واقتصادياً وأمنياً.


ولا يجرؤ أحد من خصوم أردوغان ومن المراقبين في تركيا وخارجها على تصوّر نتيجة للانتخابات تطوي ذكر الرجل، هو الذي وسم المرحلة بصوابه وخطئه، وحقق لتركيا في عهده حضوراً فاعلاً، وإن ملتبساً، في أزمات الشرق الأوسط وما يتعلق بأمن أوروبا.

خمسة مرشحين ضد أردوغان بينهم كردي، تتراوح موافقهم بين العلمانية والوطنية المحافظة واليسارية وطيف الإسلامي نجم الدين أربكان، وستحرم وفرة المنافسين أردوغان من الفوز في الجولة الأولى، ليتنافس في الثانية، على الأرجح، مع مرشح حزب الشعب الجمهوري محرم اينجه الذي يكاد يتفوق على أردوغان في مخاطبة الجمهور بل حتى في إقناعه.

انتخابات/ مفترق في تركيا، فإما أن يتكرّس ابتعاد الكماليين من السلطة نهائياً مع بقاء النزعة القومية الطورانية جزءاً من تكوين السلطة لا كل السلطة، وإما أن تتراجع تجربة «العدالة والتنمية» ويخفت صوت الإسلام السياسي، بما يضع الكماليين أمام تحدي إعادة تنظيم العلمانية وتعزيز إدارتهم للداخل التركي بما يقيهم من انقلابات عسكرية سبق أن أضعفت ركائز الدولة ومهّدت الطريق شيئاً فشيئاً للإسلاميين، بدءاً من عهد تورغوت اوزال في التسعينات الذي تميّز أيضاً بنهضة اقتصادية ملحوظة.

أمسك رجب طيب أردوغان بأوراق عدة في تركيا ومحيطها، بهدف دعم حكمه وحضور «العدالة والتنمية» كحزب قائد في الداخل ونموذج سياسي للإسلاميين في الشرق الأوسط، لكن كثرة الأوراق لا تعطي بالضرورة القوة المطلوبة من جمعها معاً. هناك تناقضات قد تنفجر في يد حاملها فتؤدي إلى أضرار من حيث لا يحتسب. فـ «الحلف الثلاثي» بين تركيا وإيران وروسيا لم يصل إلى نقاط تلاق واضحة بين أطرافه، وكثيراً ما تحمل الاجتماعات عناصر فشلها، خصوصاً إذا تعلق الأمر بشؤون المشرق العربي بل حتى في شؤون الخليج، فالروس مثلاً نصف حلفاء لبشار الأسد والإيرانيون حلفاء كاملون، فيما تركيا تناصبه العداء منذ فجر الثورة السورية، واضطرها هذا الموقف أحياناً إلى غض النظر عن إرهابيين، فقط لأنهم يساهمون في زعزعة نظام دعا أردوغان علناً إلى إسقاطه. وساهمت علاقة أنقرة «الخاصة» مع قطر في تراجعها نسبياً مع مجلس التعاون الخليجي وإن لم تنقطع بسبب حكمة قادة المجلس وحرصهم على إعطاء فرصة مفتوحة لتعيد تركيا النظر في علاقاتها مع القوى العربية الفاعلة.

وتعتبر الورقة الكردية الأكثر حساسية لأنقرة في الداخل التركي وفي سورية والعراق، فلا يمر أسبوع من دون تصريح للرئيس التركي يتناول حربه على الأكراد السوريين الذين ينعتهم بـ «الإرهابيين»، ويعتبرهم فروعاً لحزب العمال الكردستاني الذي يؤرق الحكم التركي منذ عقود. والواقع أن أردوغان يحرص على أفضل العلاقة مع كردستان العراق الذي يعتبره حليفاً وعوناً على «الإرهابيين» المتحصّنين في جبال قنديل. واحتاج الرئيس التركي وقتاً وصبراً ليصل مع الأميركيين إلى اتفاق على مناطق كردية في شمال سورية ترعاها واشنطن، وصولاً إلى دوريات عسكرية مشتركة بين أميركا وتركيا في بعض تلك المناطق تمهيداً لشمولها جميعاً، فيأمن الحكم التركي بذلك شرّ الوطنية الكردية المتطرفة ويمنع عبثها في شرق تركيا الذي شهد ويشهد حرباً داخلية شبه دائمة بين الجيش والمتمردين الأكراد، وقد دفعت حوالى 600 ألف مواطن للنزوح من الشرق إلى مناطق أخرى في تركيا، كما تسببت بخراب يصعب إحصاؤه بسبب التعتيم الرسمي. هؤلاء الأكراد الذين يحيدهم أردوغان أو يحاربهم، يتوقع العارفون أنهم سينتخبونه في الجولة الثانية، وإن على مضض، لأن التجارب علّمتهم أن ظلم الإسلامي أهون من ظلم الكمالي. وفي الوقت المناسب سيأتي من يخاطب الأكراد بأن حزب «العدالة والتنمية» وفّر حضوراً أفضل للغتهم في وسائل الإعلام وفي الجامعات، بحيث صارت الكردية مألوفة في الفضاء الاجتماعي التركي ولا تدفع مستخدميها إلى الخجل كما كان الأمر سابقاً.

إنها المفارقة، أن تنتخب الضحية جلادها لتفادي جلاّد أكثر قسوة. لكن هذا الوضع يكشف هشاشة المجتمع التركي وارتباك قياداته أمنياً وسياسياً واقتصادياً، بما يسيء إلى الصورة التي تنشرها تركيا عن كونها دولة مستقرة وقطباً من أقطاب الشرق الأوسط.