هادي اليامي

التحية في هذا المقام ينبغي أن توجه للرعيل الأول من السعوديات اللاتي ظللن يطالبن بحقهن، وتمسكن بالالتزام بالقانون، حتى أنصفتهن القيادة الكريمة وأعادت إليهن حقوقهن وهن مرفوعات الرأس

سيظل الرابع والعشرون من يونيو الجاري محفورا في ذاكرة السعوديين وتاريخهم الحديث، حيث شهد بدء ممارسة النساء السعوديات حقهن في قيادة السيارات، وتطبيق المرسوم الملكي الكريم بهذا الشأن، بعد عقود من الأخذ والرد والتردد، حسمها أخيرا ملك الحسم والحزم سلمان بن عبد العزيز بإعادة الحق إلى صاحباته، ليس ذلك فحسب، بل وحقوق كثيرة أخرى، سلبت من المرأة بفعل عادات وتقاليد عتيقة، ألبسها بعض الغلاة ثوب الدين، وحاولوا إضفاء هالات من القداسة عليها، ونسبها إلى الدين الحنيف الذي هو منها براء.
ظل موضوع قيادة المرأة لسيارتها مثار جدل بين الممانعين والمؤيدين، وشغل خلال الدورات السابقة حيزا كبيرا من مداولات ومناقشات مجلس الشورى، الذي يعبر عن تطلعات الشعب وطموحاته. كما حفلت الصحف بمساجلات عديدة بين الفريقين. ومع وجاهة الطلب، وعدم وجود خلاف حول أحقيته، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لإنصاف المرأة، حتى قيَّض الله لهذه البلاد ملكا لا يتوانى عن رد الحقوق، فكان قراره التاريخي بمثابة تأكيد جديد على أن قادة هذه البلاد وولاة أمورها لن يتوانوا عن الوقوف إلى جانب العدل، ورد المظالم، رغم أن بعض المتشككين رددوا مزاعم باطلة بأن القرار ما هو إلا محاولة لتطييب الخواطر، وأنه لن يجد طريقه إلى أرض التنفيذ الفعلي، بسبب وجود موانع كثيرة. وما درى هؤلاء الجهلاء أنه صادر من أعلى سلطة في البلاد، وأن من يحاول الوقوف في طريقه كمن يحاول أن يحجب ضوء الشمس بغربال مهترئ.
ولا أخال أن هناك من يتشكك في الإيجابيات الكثيرة لهذا القرار على حياة كافة أفراد الشعب، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الاجتماعي والأمني أيضا، فالتكاليف المتزايدة لمئات الآلاف من السائقين الذين كانت الأسر السعودية تضطر إلى استقدامهم ودفعها كرواتب لهم سوف تزيد من القدرة الشرائية لتلك الأسر، مما ينعكس إيجابا على السوق المحلي، ويمكن توظيفها لإحداث المزيد من التنمية، بما يؤدي إلى إيجاد مزيد من الفرص الوظيفية. كما أن دماء المعلمات والموظفات التي كانت تهدر على الإسفلت جراء تصرفات سائقين متهورين لا يهمهم سوى نقل أكبر أعداد منهن، سوف تصان، إضافة إلى وقف الجرائم التي كان يرتكبها بعض السائقين بحق من يضطررن إلى الركوب معهم في سيارات الأجرة، وتجنيب الأسر العديد من السلبيات الأخلاقية الكثيرة جراء مخالطة الأطفال لأولئك السائقين الذين ينحدرون من مجتمعات تختلف كثيرا عن مجتمعنا في عاداتها وتقاليدها.
وحسنا فعلت القيادة الرشيدة بوجود مدة زمنية تبلغ عدة أشهر بين إصدار القرار وبدء سريانه، حيث استغلت الأجهزة المختصة تلك الفترة لتوفير كل الاشتراطات اللازمة لتنفيذ القرار في أجواء تضمن سلامة الجميع، بدءا من افتتاح مدارس خاصة لتعليم النساء القيادة، وزيادة الجرعة التثقيفية والتوعوية، وإصدار الضوابط الضرورية، وغير ذلك مما يلزم. إضافة إلى تهيئة المجتمع لتقبل الأمر، والتعامل معه على أنه واقع ينبغي التعايش معه، وتحذير كافة الأصوات المشروخة التي ارتفعت برفضه، ووصلت حد إصدار بعض المهووسين والذين يعيشون خارج الزمن لتهديدات هلامية، تعاملت معها الأجهزة الأمنية بما يلزم من حسم وصرامة. ومن الخطوات الإيجابية التي تصب في صالح التنفيذ الآمن للقرار إصدار قانون منع التحرش، الذي يضمن سلامة النساء، والتعامل الصارم مع من يحاولون تهديدهن والتعدي عليهن، قولا أو فعلا، وهي خطوة أتت في وقتها المناسب، لتؤكد حرص القيادة الرشيدة على استتباب الأمن، وعدم ترك فرصة أمام أي مستهتر، وسد كل ثغرة يحاول بها بعض مرضى القلوب التعلل بعدم وجود قانون يعاقب مرتكبي هذا الفعل المستهجن، وهو ما يؤكد بعد نظر المسؤولين.
من الأشياء التي ظلت تلاحقني خلال مسيرتي العملية أو خلال مشاركاتي المتكررة في ندوات أو ورش عمل خارج المملكة – بحكم تمثيلي لبلادي في عدد من المحافل الحقوقية - تلك الأسئلة المتعددة عن الحكمة من وراء منع المرأة من قيادة السيارة في السعودية، فالبعض كان يتساءل عن ذلك في الوقت الذي تمارس فيه أعداد من نساء بلادي الفضليات قيادة الطائرات. وبعض تلك الأسئلة كان يقولها أصحابها بحسن نية، والآخر بسوء نية، وفي كلتا الحالتين كنت وغيري ممن يتعرضون لذلك الموقف نضطر إلى السكوت، بسبب عدم وجود إجابات مقنعة. حتى في بعض الدول العربية كنا نواجه بمثل هذه الأسئلة، وقد فاجأني أحد الأصدقاء ممن يتبوؤون منصبا قياديا في وزارة الداخلية الإماراتية بأن إحصاءات رسمية لوزارته تثبت أن أقل نسبة حوادث في الإمارات، خصوصا دبي، ترتكبها النساء السعوديات اللاتي وصفهن بأنهن أكثر الملتزمين بآداب وضوابط السير.
التحية في هذا المقام ينبغي أن توجه للرعيل الأول من السعوديات اللاتي ظللن يطالبن بحقهن، وتحملن في سبيل ذلك كثيرا من الأذى، وتمسكن بالالتزام بالقانون في سبيل استعادة حقهن، ورفضن دعوات كثير من المنظمات المشبوهة والجهات المعادية التي ظلت تحرضهن باستمرار على التظاهر وافتعال الأزمات، حتى أنصفتهن القيادة الكريمة وأعادت إليهن حقوقهن وهن مرفوعات الرأس كريمات الجانب. ليتأكد من جديد أنه ما ضاع حق وراءه مطالب.