بكر عويضة

 كلا، ليس الموضوع هنا بشأن تعويض ضائع الوقت في ملاعب كرة القدم، لأسباب تخص مجريات اللعب في المباريات، وما يقع خلالها من إصابات أو خصومات، ومن ثَمّ منح وقت إضافي للرجال، عباقرة الركض بالأرجل - بالطبع، بعض منهم يتمتع بمواهب، وربما عبقرية، تضاف إلى مواهبهم في أقدامهم - للانقضاض على الكرة وإشباع كومة من جلد مسكين، بلا حول ولا قوة، ركلاً من أمام ومن خلف، عن يمين وشمال، بقصد إسكان الكرة في شباك مرمى الخصم. إنما المقصود هنا ما يضيع على الشعوب - بصرف النظر عن العقائد والثقافات، أو مكوّنات أي مجتمع - من فرص التقدم نتيجة إهدار الوقت طوال سنين من التردد، أو الخوف إزاء الإقدام على إحداث تغيير في السلوكيات، من دونه سوف تظل المجتمعات تلهث فيما يشبه الدوران حول الذات، لا هي قادرة على نقاء وإخلاص الوفاء لماض تصر بعض الرؤى المصابة بجمود التفكير على شدها نحوه، ولا هي مالكة لأسباب امتلاك مستقبل يناديها للحاق به قبل فوات الأوان.

ليس من الصعب إيراد أكثر من مثال على ما أدى اللعب في الوقت الضائع - الذي يُعطى، من باب تنميق الكلام، صفات تشبه أقراص دواء يُسكّن الآلام ولا يعالج المرض - من تضييع فرص على شعوب عدة طوال عقود استغرِقت في خوض معارك جدال ثبت في وقت لاحق أنها لم تكن سوى إضاعة للوقت فيما لا طائل من ورائه. خذ، مثلاً، كم قرنٍ أضاع الأميركيون كي يصلوا، في نهاية المطاف، إلى حقيقة أن المساواة في حق بني آدم وحواء في الحياة الآدمية، ليست مِنّة من مخلوق أبيض الجلد على من وُلِد ببشرة ذات لون مختلف. مجتمعات أوروبية عدة شهدت هي أيضاً الكثير من أمثلة إهدار الوقت قبل إقرار ما كان واضحاً كل الوضوح أنه هو الصحيح. مثال ذلك، كفاح قطاع العمال في غير بلد أوروبي طوال عقود لأجل تحقيق العدل في التعامل بين العامل وصاحب العمل.

مشكل أساس يؤدي لكل هكذا ضياع للوقت، يتمثل في سيطرة حالة إنكار العقل لوجود واقع ماثل لكل ذي سمع وبصر. يحصل هذا في المستوى الجمعي، وهو الأخطر، مثلما يقع في الجانب الفردي. مثلاً، يعاني شخص ما أعراض حالة يبدو واضحاً لأفراد في أسرته، وربما لأحباء آخرين حوله، أنها تنبئ باحتمال وجود مرض بدني، أو نفساني، خطير، قد يكون كامناً، فإذا قيل له إن الأفضل تقصي الأمر طبياً، انتفض مُغاضِباً أن لا شيء يدعو للقلق. نهار ينفض ذلك الشخص عن الرأس غبار حالة إنكار العقل الرافض لأي تقصٍ لحقائق طبية بحتة، الأرجح أن الوقت يكون تأخر كثيراً، وربما لن يجدي عض أصابع الندم أي نفع.
رغم خطورة تداعيات الحالة الفردية على عموم أي مجتمع، يظل الأخطر هو دخول المجتمعات في حالة سُبات ناتجة عن إنكار العقل المجتمعي لضرورة القبول بالتغيير. هكذا وضع غير صحي يبقى هو المعرقل الأساس لأي تقدم نحو الأفضل. يصح هذا في التعامل مع مستويات عدة: اجتماعياً، اقتصادياً، تعليمياً، صحياً، بيئياً، وبالطبع سياسياً. لكي تنهض الشعوب من مراحل جمود طويلة مرت بها، تحتاج عنصرين يكمل كلاهما الآخر. العنصر الأول، والرئيس، يتمثل في ظهور قيادات تمتلك، من جهة، رؤى مستقبلية تسعى لنفض كسل التراخي بعدما أصاب غير عصبٍ في بنيان المجتمع، وفي الجهة المقابلة تتوفر لمثل تلك القيادات شجاعة الإقدام على تنفيذ ما تبشّر به، فلا تخشى ردات فعل لا مفرَّ من ظهورها إلى السطح من قِبل قوى سوف تصر دائماً على شد العربة إلى الخلف، مع ضرورة بذل جهد الحوار بغية إقناع المُخالف نتيجة سوء الفهم، وليس لمجرد الرغبة في الاختلاف مع أي توجه جديد.

العنصر الثاني، وهو ليس بأقل أهمية، يتمثل في استعداد شرائح لديها الكفاءة الفكرية، ممزوجة بالتجربة العملية، كي تضع جهدها، بإخلاص يقترب من درجة تغييب الأنا الذاتية لصالح دفع عجلة التغيير المطلوب على الطريق الصحيح. بلا توافق هكذا عنصرين، سوف يبقى من الصعب على المجتمعات عموماً - بصرف النظر عن الخلفيات الثقافية والمراجع التاريخية - النهوض من حالات تضييع الوقت في دوران حول الذات. تلك حالة إذا أصابت أي مجتمع، فإنها كفيلة بإبقائه يركض في مكانه.