شوقي الريّس

تكفي جولة على قاعات الرسم الكلاسيكي في أي متحف في العالم لنتبيّن مدى الاهتمام الذي كان يوليه أعضاء العائلات المالكة والنبلاء وأهل النخبة من الرجال للملابس التي كانوا يرتدونها، والتي كانت تضارع الملابس والأزياء النسائية من حيث التأنق والزخرفة. ويستدلّ من بعض الكتب النفيسة المحفوظة في كبريات المكتبات الوطنية الأوروبية أن مهنة الخياطة الرجالية، كما نعرفها اليوم بتقنياتها الأساسية وطقوس مقاساتها وحِرفيتها، بدأت تستقر في العواصم والمدن الكبرى منذ أوائل القرن السادس عشر، وأن فترات ازدهارها تزامنت مع اتساع نفوذ وقوة الممالك التي كانت تمارس نشاطها فيها.

مع مرور الزمن وتطور العادات وتبدّل مقتضيات الحياة الاجتماعية والأنشطة المهنية، تغيّرت أمور كثيرة في هذه المهنة، لكن النزعة إلى التميّز بقيت متأصلة عند الرجال ومقصورة على أقليّة مقتدرة، لكن كافية لاستمرارها والحفاظ عليها من الانقراض.

من بين دور الخياطة الرجالية الراقية في العالم، التي لا تتعدّى العشرات، اخترنا خمساً ما زالت تراهن على العمل الحرفي المُتقن وأجود المواد الطبيعية، خارج متوجّبات الوقت والكلفة، للحيلولة دون اندثار هذه المهنة أمام زحف صرعات الأزياء والملابس الجاهزة.

- لوبيز هربون... مدريد

يقوم مشغَله في أحد الأحياء الراقية من مدريد منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما هاجر جده من مدينة نافارّا إلى العاصمة بعد أن تدرّب في باريس ولندن على يد أحد أمهر الخيّاطين هناك. أعمدة من الرخام، وطاولات كبيرة من الخشب العتيق، ومقاعد وثيرة من الجلد والمخمل تستقبلك في هذا المكتب الذي يقع في الطابق الثاني من غير واجهة تطلّ على الشارع يُستدلّ منها على أنك أمام خياط الملك خوان كارلوس الأول، وابنه الملك فيليبي السادس، وعدد من المشاهير كان كل من المصمم الراحل أوسكار دي لا رنتا ونجم الأوبرا بلاسيدو دومينغو وبطل «الفورمولا واحد» فرناندو آلونسو منهم.

يعتمد هربون بشكل أساسي على الأقمشة الفاخرة التي ينتجها له خصيصاً أحد مصانع النسيج في كاتالونيا. لكن العاهل الإسباني «يفضّل أقمشة لورو بيانا الإيطالية التي لا تزيد زنة المتر الواحد منها عن 270 غراماً». ويقول إن الإتقان هو سر خياطة البدلة الرجالية الراقية التي يمكن أن تدوم عشرين عاماً من غير أن تفقد من جودتها وأناقتها.

يذهب مرتين في العام إلى نيويورك، حيث يستقبل زبائنه مثل قائد الأوركسترا الشهير زوبين ميتا وبعض نجوم السينما والأثرياء الذين طلب منه أحدهم مرة خياطة بدلتين لشخصية مهمة جدّاً، تبيّن فيما بعد أنها رونالد ريغان. ويُذكر كيف كان والده يذهب إلى قصر الباردو في ضواحي مدريد لأخذ مقاسات الجنرال فرانكو الذي نادراً ما كان يغادر مقرّ إقامته. معظم كبار مصارعي الثيران في إسبانيا أيضاً من زبائنه، رغم أنك لن تجد أبداً أي إعلان عن مشغله الذي يدور فيه العمل بهدوء على أنغام الموسيقى الكلاسيكية.

ويذكر هربون أن أربعة آلاف بدلة كانت تخرج سنويا من مشغله في ستينات القرن الماضي عندما كان عدد عماله يقارب المائة، بينما لا يتجاوز عددهم العشرة حاليّا ينتجون نحو 300 بذلة. السبب أن البدلات المفصّلة أصبحت ترفاً لا يقدّره سوى من يعيش عكس مسار الزمن وتّيار الموضة.

- هنري بول... لندن

عندما طلب ولي العهد البريطاني إدوارد السابع قبل أن يتولى الملك، من هنري بول أن يصنع له سترة قصيرة زرقاء اللون ليرتديها في الحفلات غير الرسمية التي كان يقيمها في منزله الريفي في ساندرينغهام، لم يكن يتوقّع أن شهرة تلك السترة ستذيع ويُقبل عليها النبلاء والمشاهير في أوروبا وأميركا. لكن شهرة هنري بول وعراقة مشغله ليست مقصورة على تلك السترة. افتتح جيمس بول متجره الأول عام 1806 لبيع الأقمشة وخياطة الملابس العسكرية في شارع إيفيريت عند ميدان برونسويك في لندن، ثم انتقل إلى ريجنت ستريت ومنه إلى موقعه الحالي في «أولد بيرلغنتون أركايد» قبل وفاته في عام 1846.

وعلى يد ابنه هنري أصبح المحترف الخيّاط المعتمد للعائلة المالكة البريطانية وللساعين إلى الشهرة والبروز في المجتمع البريطاني. قام بتوسعة المبنى وفتح له مدخلا على «سافيل رو» الشهير. بعد وفاة هنري عام 1876، واصل المشغل نجاحه وذاعت شهرته ليصبح أكبر مؤسسة للخياطة الرجالية في العالم، يعمل فيها أكثر من 300 خيّاط وحرفيّ. وبعد انتقاله لفترة قصيرة إلى كورك ستريت عام 1961، في أعقاب هدم المبنى الأول في سافيل رو، عاد ليستقر في المبنى رقم 15 من الشارع الشهير حيث يستقبل زبائنه في قاعاته الوثيرة المفروشة بالسجّاد الأخضر الفاخر والتحف النادرة، والمطلّة على واجهاته الزجاجية التي يتوقّف أمامها الزوّار يستعرضون إنجازاته في عالم الخياطة منذ 200 عام.

لكن هنري بول لم ينم على غار الماضي والسمعة العريقة، بل قرر مواكبة التطورات والمنازع الحديثة، فأقام شراكات إنتاجية مع مؤسسات عالمية للأزياء الجاهزة أبرزها مع شركة آديداس الألمانية لإنتاج مجموعة من الألبسة الرياضية الفاخرة. ومن بين زبائنه ديفيد غاندي، أشهر عارض للأزياء الرجالية في بريطانيا، إضافة إلى أفراد العائلات المالكة ومشاهير نجوم الفن والسينما كالممثلين الذين لعبوا دور العميل السري جيمس بوند في سلسلة أفلامه الشهيرة.

- كاراشيني... روما

تأسس مشغل كاراشيني للخياطة الرجالية عام 1913 في روما على يد دومينيكو الذي كان يملك محترفات للخياطة أيضاً في ميلانو وفي باريس، الذي كان يشرف عليه شقيقه أوغوستو ومشهور كعنوان تقصده النخبة الفنية والمالية والسياسية في العاصمة الفرنسية. لكن عندما أعلن الزعيم الإيطالي الفاشي بنيتو موسولوني الحرب على فرنسا، اضطر أوغوستو لإقفاله وانتقل مع مساعديه إلى العاصمة الإيطالية.

يقوم مشغل كاراشيني اليوم في شارع هادئ بوسط روما. يشرف على إدارته تومي وجوليو اللذان يحرصان على اتباع الأسلوب الحرفي الراقي ذاته الذي تميّز به المؤسس، ويصرّان على عدم توسعة نشاطهما خارج دائرة ضيّقة من الزبائن الأوفياء الذين يؤمنون بأن «الأناقة هي أن تنسى ماذا ترتدي»، كما يقول جوليو الذي لا يحبّ التحدّث عن زبائنه. فالرجل الأنيق بالنسبة له «لا يتحدث عن خيّاطه، كما أن الخيّاط الراقي لا يتحدّث عن زبائنه».

لكن رغم حرص الأخوين كاراشيني على عدم الكشف عن أسماء الشخصيات الشهيرة التي ترتاد مشغلهم، لم يعد سرّاً أن من بين هذه الشخصيات الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك وأمير موناكو وسيلفيو برلسكوني ومصمم الأزياء الإيطالي الشهير فالنتينو، إضافة إلى كوكبة رحلت من المشاهير مثل همفري بوغارت وغاري كوبر وغاري غرانت والمصمم إيف سان لوران، والرئيس السابق لشركة «فيات» جياني آنيلّلي الذي كان يُعتبر النموذج الأرقى للأناقة الإيطالية.

- تشيفونلّي... باريس

منذ عام 1880 تتعاقب أجيال العائلة على هذا المحترف الراقي في العاصمة الفرنسية، الذي قاوم سلسلة من الإغراءات التي عرضتها عليه المخازن الكبرى بعكس معظم الخيّاطين البريطانيين والإيطاليين المعروفين، وبقي على وفائه لروح مؤسسه جيوزيبي تشيفونلّي في روما.

عندما تقدّم جيوزيبي في السنّ قرر إرسال ابنه ارتورو إلى لندن ليتدرّب في الأكاديمية الملكية للخياطة التي كانت أرقى المعاهد المهنية في عالم الخياطة حينها. وما زالت الشهادة التي عاد بها ارتورو من تلك الأكاديمية تتصدّر المشغل الأنيق الذي يقع في شارع ماربوف، أحد أجمل شوارع العاصمة الفرنسية. يشرف على إدارة المشغل اليوم لورنزو وابن عمّه ماسّيمو الذي يلخّص الركائز التي يقوم عليها نشاط المشغل بقوله: «الصرامة البريطانية والمنحنيات الإيطالية واللمسات الفرنسية».

ويُعرف عن لورنزو تشدده في التعامل مع الخيّاطين الحرفيين الذين يعملون في مشغله، إذ يشرف شخصياً على كل قطعة عند إنجازها، ويطلب إعادتها إذا وقع على أدنى قدر من الإهمال أو الإغفال في إنتاجها.

ومن الزبائن المشهورين عند تشيفونلّي ممثلون مثل لينو فنتورا وألان ديلون وإيف مونتان وجان بول بلموندو ومارتشيلّو ماستروياني، والرئيس الفرنسي الأسبق الاشتراكي فرنسوا ميتران الذي بيعت أخيراً بالمزاد العلني البدلات التي كان يرتديها من عام 1992 إلى عام 2007.

- فيورافانتي... نيويورك

أما آخر الخمسة الكبار فلعّله أولهم والأوسع شهر بينهم. هو «المعلّم» كما ينادونه، الحائز على المقصّ الذهبي من الأكاديمية الإيطالية خمس مرات ورئيس رابطة مصممي الأزياء الرجالية في الولايات المتحدة، وسليل كبار الخيّاطين في نابولي التي أعطت، ولا تزال، أمهر الحرفيين في صناعة الأزياء الرجالية.

منذ 35 عاماً يتوافد كبار الأثرياء والنجوم على متجره في نيويورك، ويقصده المشاهير من كل أنحاء العالم. ولا تدخل إلى مشغله من غير موعد سابق، يحدد عادة قبل أشهر، فأنت «عندما ترتدي بدلة خرجت من بين يدي فيورآفانتي ستصبح شخصاً غير الذي كنت قبل أن ترتديها». أما عن تكلفة التحف التي تخرج من ذلك المشغل، فيقول أحد زبائنه: «قد تذهب إلى السيد فيورآفانتي ثريّاً ومشهوراً، لكنك لن تخرج من عنده إلا مشهوراً».

يصنع فيورآفانتي أقمشته من صوف Merino الأسترالي الذي يُحاك في مصانع «سكابال» البلجيكية الشهيرة. يحمل هذا النوع من الصوف اسم الغنم المتحدر من أصول إسبانية، متحدرة هي الأخرى من أصول عربية يقال لها غنم المور، أي غنم المسلمين. ويعطي هذا الغنم خمسة أضعاف ما تعطيه الأصناف الأخرى، وخيوطه أرفع من شعر الإنسان معروفة بصلابتها.

ويقول السيّد فيورآفانتي، في معرض الدفاع عن هذا الصوف والتباهي باستخدامه: «كلما كان الخيط دقيقاً ارتفعت جودته وأصبح نادراً. إن أرفع خيوط هذا الصوف يوازي، من حيث التطور التكنولوجي، اختراق أول طائرة نفّاثة جدار الصوت لأول مرة». ويضيف فيورآفانتي بكل تواضع: «مَن يرتدي بذلة خرجت من هذا المشغل كمن يقود سيارة (لامبورغيني) في شوارع نيويورك.. وذراعه اليمنى لا تمتدّ إلا لتوقيف سيارات التاكسي الجديدة والنظيفة».