محمد برهومة

في إطار تغطيتها الانتخابات التركية الأخيرة، التي تمخضت عن فوز رجب طيب أردوغان في الرئاسة لخمس سنوات مقبلة قابلة للتجديد، قالت «دويتشه فيله» إن أردوغان فاز في ألمانيا أكثر من فوزه في تركيا، حيث حصد نحو 65 في المئة من أصوات الجالية التركية هناك. بالطبع ليست ألمانيا هي الدولة الأولى في نسبة التصويت، فقد تفوقت عليها بلجيكا، التي صوّت نحو 75 في المئة من الأتراك فيها لمصلحة رئيس حزب العدالة والتنمية. لعلّ هذا يفتح مزيداً من النقاش، المفتوح أصلاً، حول مسائل السيادة الوطنية، والولاء، ومنطق العلاقات الدولية، ومستقبل العلاقات التركية-الأوروبية، وتأثير الشعبوية في كل ذلك، وفي مقدمه تفاعلات مسألة الهوية في الغرب.

وقد وصل الأمر بأردوغان، في صراعه المعروف مع المستشارة الألمانية، أنغيلا مركل، أن دعا الجالية التركية في ألمانيا إلى التصويت ضدها، مستغلاً قوّة هذه الجالية في ألمانيا وتأثيرها المتصاعد، المقرون بولاء واسع للرئيس الشعبوي، الذي كان على مدى الشهور الماضية واعياً لفكرة تقديم نفسه أمام قاعدته الانتخابية أنه «نِدٌ عنيد» للغرب، ومعنِيٌّ بتكريس «العِزّة القومية» لتركيا في عهده!

أردوغان اليوم بعد التعديلات الدستورية الكبيرة لمصلحته يغدو حالة سياسية فريدة في الدولة التركية الحديثة، فلم يسبقه أحد فيها بعدد سنوات الحكم، فحتى المؤسس مصطفى كمال أتاتورك لم تتجاوز سنوات حكمه الـ15 سنة، بينما تجاوز حكم أردوغان حتى اليوم الـ16 سنة مع احتمالات عشر سنوات أخرى مقبلة، وإذا أضفنا حكم حزبه منذ سيطرته على البلديات التركية فإننا نصل إلى أن العدالة والتنمية يحكم منذ ربع قرن. بالتأكيد ليس ثمة مشكلة في أن ذلك كله تمّ عبر صناديق الانتخابات، بل المشكلة أنه عاماً بعد آخر يتم تجريف الحياة السياسية في تركيا بسبب سياسات أردوغان السلطوية، وتمدد هيمنته على الفضاء العام التركي، صحافة وقضاء وحريات...، ما يعني غياب العدالة والتوازن في المنافسة السياسية، وهو ما اتضح في الانتخابات الأخيرة المبكرة. مع ذلك، فإن النسبة التي تجاوزت الـ45 في المئة التي لم تصوّت لأردوغان وحزبه تعني أن ثمة انشطاراً في المجتمع التركي حول الخيارات الأساسية، ولذلك غالباً ما تشهد الانتخابات في تركيا نسبة مشاركة عالية جداً، غير أن فشل المعارضة في التوحد صبّ في مصلحة أردوغان، وإذا ما جرت تحولات في البرلمان التركي فإن في وارد الاحتمالات (التي تبدو ضعيفة الآن بالطبع) أن تقوى المعارضة وتتوحد لتحصيل ثلثي الأصوات في البرلمان، وهي النسبة القادرة على تعطيل كثير من قرارات الرئيس الجديد شبه المطلقة.

على كلّ، إذا بقي هذا الاحتمال ضعيفاً في المرحلة المقبلة فإن ذلك مما يغري أردوغان، على المستوى الشعبوي والأيديولوجي، على توسيع تحالفه مع حركات الإسلام السياسي من جهة، وكذلك مع الجاليات المسلمة في أوروبا من جهة أخرى، خصوصاً في ظل الحديث المتزايد عن رغبة أردوغان القوية في أن يكون عرّاباً لشرائح واسعة من المسلمين في أوروبا (ألمانيا وبلجيكا والبوسنة...). ومن المفارقات، أن أردوغان الذي تحالف مع اليمين المتطرف (دولت بهشلي) يلوم وينتقد النمسا على حكم اليمين المتطرف فيها! هذا بالطبع، كما أسلفنا، سيثير مسألة السيادة والولاء الوطني في الدول الأوروبية، وسيضعف أكثر فأكثر فرص انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وسيزيد من حدّة الكلام عن «فارق القيم»، في ظل إصرار أردوغان على أن ولاء الرعايا الأتراك في أوروبا هو لتركيا أولاً، وقد يفتح هذا أزمات هوية وصراعات بين تركيا ودول غربية، على رغم حاجتها لأردوغان في ملفات الهجرة والأمن ومكافحة الإرهاب (ملف العائدين الغربيين من سورية والعراق).

* كاتب أردني