عبدالله المدني 

لا زالت «قمة القرن» أو «قمة السحاب» أو «قمة المستحيلات» بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي «كيم جونج أون» التي انعقدت في جزيرة سانتوزا السنغافورية في يونيو المنصرم محل اهتمام الكتاب والمحللين والمراقبين ولاسيما في الولايات المتحدة والأقطار الآسيوية المعنية مباشرة بنتائجها وتداعياتها مثل الصين وكوريا الجنوبية واليابان.

فالبعض قال، إن بيونج يانج حصلت على الكثير، مثل الاعتراف الأميركي بنظامها الديكتاتوري وضمان أمنه والتعهد بعدم المس به أو تغييره، فيما لم تعط بيونج يانج في المقابل سوى الوعود التي يمكن أن يتراجع عنها زعيمها غير مضمون الجانب بسبب تاريخه المعروف بالمراوغة والعنتريات. ولتأكيد رأيه، عرج هذا البعض على تغريدة ترامب التي قال فيها إنه «حل المشكلة»، فكذب مضمونها، مشيراً إلى البيان المشترك للقمة، والذي جاء «قصيراً وغامضاً، ولم يتعد عدد كلماته الـ 391 كلمة».

والبعض الآخر قال إن ما يحسب لواشنطن هو نجاحها في إبعاد تهديدات بيونج يانج عن الأراضي الأميركية وأراضي حلفائها في كوريا الجنوبية واليابان، والتي كانت كابوساً على مدى سنوات كان خلالها «كيم جونج أون» يتوعد ويهدد يومياً بإطلاق صواريخه الباليستية والنووية عليها بهدف مسحها من الوجود، مضيفاً إلى ذلك نجاح الرئيس ترامب في اختراق جدار صلب، وبناء علاقات شخصية مع زعيم الدولة الستالينية.

والبعض الثالث انتقد القمة لأنها كانت قصيرة وانفضت دون الاتفاق بدقة على مجموعة من القضايا الملحة التي انعقدت أساسا من أجلها. فهي لئن شهدت إلتزاما من الجانب الكوري بالسعي إلى إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، فإنها لم تشهد مثلا وضع جدول زمني للتنفيذ أو تحديد آلية للتحقق من ذلك الالتزام. كما أن الطرف الكوري الشمالي لم يتطرق إلى التزام مشابه حول صواريخه الباليستية، ولم يلزم نفسه بإجراء إصلاحات اقتصادية على الأقل أو يتعهد بتوقيع معاهدات سلام شاملة ونهائية مع سيؤول وطوكيو. وهذا البعض الثالث كان جلهم الأكبر من الديمقراطيين المناوئين لترامب بدليل أنهم قارنوا اتفاق الأخير مع نظيره الكوري الشمالي بالاتفاقية النووية التي أبرمها «باراك أوباما» مع الإيرانيين، مشيدين بالأخيرة طبعاً.

كل هذه التفاصيل والملفات مهمة بطبيعة الحال، لكني شخصياً أميل للرأي الذي طرحه زميلنا الدكتور عبدالمنعم سعيد في صحيفة الشرق الأوسط (20/6/2018) ومفاده أن القمم الكبرى التي تشكل منعطفاً تاريخيا في مصائر الأمم والشعوب مثل قمة سانتوزا ومن قبلها قمة كامب ديفيد يجب فيها «تعظيم المكاسب بقدر ما هو ممكن، وتقليل المخاطر بقدر ما هو متاح». وبكلام آخر يجب الاتفاق على العناوين الكبيرة، مع ترك التفاصيل الدقيقة لفرق من الدبلوماسيين والمتخصصين الذين يجتمعون لاحقاً في جولات مكوكية لإنجاز ما لم يتم إنجازه. ذلك أن الانشغال بالتفاصيل، وهي كثيرة ومتراكمة منذ انتهاء الحرب الكورية في عام 1953 كان سيطيل مدة القمة، ويبعث في وفودها الملل والضجر الكفيلين بإخراجها عن أهدافها الرئيسية المتمثلة في التعارف وبناء الثقة قبل كل شيء. وقد يؤدي الانشغال بالتفاصيل إلى تشنجات وتوترات تطيح بكل شيء في لحظة من اللحظات.

وطالما تطرقنا إلى الإنجاز ففي رأيي المتواضع أن عقد القمة هو في حد ذاته إنجازاً كبيراً، لأنه تغلب بشجاعة على ما كان بين طرفيها من عداء مرير واختلاف في التوجهات الأيديولوجية وتحالفات متناقضة.

وبغض النظر عما هو في النفوس والضمائر فإن قمة سانتوزا، التي أطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى مكان انعقادها، وهو جزيرة صغيرة مرتبطة بجزيرة سنغافورة الأم بما يسمى «التلفريك»، غيرت المشهد في شمال شرق آسيا كليا، وربما ستغيره أكثر فأكثر في القادم من الأيام نحو الأفضل إذا ما صدقت النوايا والتزم الطرفان بأهداف إشاعة الأمن والاستقرار والسلام والتنمية في المنطقة بدلاً من نشر الخراب والدمار وإشاعة أجواء الحرب.

والأمل هنا معقود ليس على نظام بيونج يانج وحده وإنما أيضاً على حليفتها الوحيدة وهي الصين. فالصينيون الذين حموا آل كيم، وأطالوا عمر نظامهم البائس، ووضعوا الكثير تحت تصرفهم للإفلات من العقوبات الأممية والأميركية لا يسرهم أن تنشأ علاقات قوية طبيعية بين بيونج يانج وواشنطن، خصوصا وأن الأخيرة ــ كما هو معروف ــ تعمل لمحاصرة النفوذ والتمدد الصيني في آسيا بكل السبل، وبالتالي فإن كوريا الشمالية تمثل لبكين ورقة مهمة في أي مفاوضات أميركية ــ صينية. وبالمثل لا تسر الصينيين فرضية أن تبدل بيونج يانج جلدها الاقتصادي باستلهام النموذجين الكوري الجنوبي والياباني.

ولهذا رأينا مؤخراً تحركات دؤوبة من قبل بكين تجاه بيونج يانج والعكس من أجل الاطمئنان على ما ستكون عليه الأحوال مستقبلا. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى زيارة «كيم جونج أون» لبكين بعد نحو أسبوع من انتهاء قمة سنتوزا، وهي الزيارة الثالثة له إلى الصين خلال ثلاثة أشهر، حيث عقد لقاء قمة مع نظيره الصيني «شي جينبينغ» تم خلاله التأكيد على استمرار تحالف البلدين سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، وضرورة أن تتبنى بيونج يانج النموذج الاقتصادي الصيني إذا أرادت إجراء خطوات انفتاحية. والمعروف أن الرئيس جينبينج سبق وأن صرح ــ طبقا لما أوردته وكالة الأنباء الصينية ــ بأن بلاده سعيدة لقرار بيونج يانج بناء اقتصادها. والمعروف أيضاً أن هذا التصريح تلا زيارات قام بها مسؤولون كوريون شماليون للصين للإطلاع على النموذج الاقتصادي الصيني والاستفادة منه.