رضوان السيد 

بول كروغمان أستاذ اقتصاد سياسي كبير، ومن أهل نوبل (2008). وهو يكتب في «نيويورك تايمز» منذ أكثر من عقد. وقد أُغرمتُ بكتاباته منذ قرأتُ مطالعته عن «عودة الكساد العظيم إلى الاقتصاد العالمي»، وسمعتُ محاضرته المشرقة عنها في مدرسة كنيدي للحكم بهارفرد عام 1997.

مقالته الأخيرة في «نيويورك تايمز» تهتم بكيفية بناء الأساطير السياسية. وهو يقصد بالأسطورة أو الخرافة الحُمَّى التي صنعها الرئيس ترامب حول الهجرة إلى أميركا، والأخطار التي تؤدي إليها. وموضوع استغراب كروغمان أنّ الذاكرة الشعبية الأميركية لا تتضمن أموراً مَهولةً بشأن الهجرة ومساوئ المهاجرين. فالولايات المتحدة نفسها صنعها مهاجرون، جاؤوا من أوروبا أولاً بوصفهم بروتستانت اضطهدهم الكاثوليك، لكنهم جاؤوا بعد ذلك من جميع أنحاء العالم. فحتى الكاثوليك صاروا ثلث سكان الولايات المتحدة وأكثر. فهل استطاع ترامب إرعاب الأميركان بالهجرة من المكسيك، ومن الدول الإسلامية بسبب ما يحصل في أوروبا ومعها؟ إنما إذا كان الأمر كذلك، فلماذا صدّقه الأميركيون وليس العامة فقط، بل قُضاة المحكمة العليا الذين وافقوا على قراره بمنع أبناء ست دول من دخول الولايات المتحدة؟!

ويعود كروغمان بالذاكرة إلى الحملة التي شنّها هتلر وحزبه على اليهود منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي، باعتبارهم واعتبار خيانتهم (كذا) سبب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، واعتبارهم ساعين لتدمير الحضارة الغربية عبر إفساد طهارة العرق الآري! لقد صدقته فئاتٌ شعبيةٌ واسعة بحيث فاز حزبه بالأكثرية النسبية في انتخابات عام 1933. لكن ليس هؤلاء فقط، بل إنّ مفكرين مثل مارتن هايدغر وكارل شميدت ما كانوا بعيدين عن هذا الاعتقاد والذي كان مقدمةً للهولوكوست.

ولا ينقضي عجب كروغمان من ترامب وشعبيته التي أوصلته إلى سدة الرئاسة بسبب أفكاره. لكنه يستظهر أنّ الميل للتفكير الخرافي لدى العامة إنما يظهر في حالات عدم الاستقرار الاقتصادي أو انهماك الأمة في حربٍ. وعندها يظهر ميلان متناقضان: ضرورة الخروج من الأزمة بانتصار، وضرورة الابتعاد عن كل ما من شأنه تهديد الأمة في عيشها ومصيرها. وفي الواقع فعلى وقع مشاعر مثل هذه نجح نيكسون في مطلع السبعينيات لتعهده بالخروج من حرب فيتنام، ونجح أوباما لتعهده بالخروج من حرب العراق!

فما هي رسالة ترامب التي دفعت جمهوراً عريضاً إلى أحضانه؟ هنا يقر كروغمان أنه لا يعرف، لأن أوباما خرج من العراق بالفعل محققاً وعده الانتخابي. على أنّ ترامب لا يختلف عن أوباما في عدم ميله إلى الحروب الخارجية، بل يختلف عنه في السياسات الداخلية اختلافاً كبيراً. فترامب يرى أنّ رسالة أميركا ليس تجاه العالم، بل تجاه شعبها ورفاهيته الاقتصادية والاجتماعية، وضمن ذلك عدم استقبال المهاجرين، وعدم الإنفاق على أمن الأوروبيين، وتحدي ما يعتبره فائضاً صينياً وآخَرَ كندياً. وكل هذه الإجراءات تحظى بقبول شعبيٍّ في المدى القصير بسبب الوضع الاقتصادي الأميركي الجيد حالياً. أما هذا الوضع الجيد فله سببان في نظر كروغمان: تردد شركاء الولايات المتحدة من أوروبا للصين في الرد بإجراءات مضادة بسبب هَول الاقتصاد الأميركي من جهة، وبناء النظام النقدي العالمي على الدولار، ولأنّ الآخرين الكبار العاجزين عن القيام بحرب اقتصادية الآن يتوقعون تباطؤاً في النمو الأميركي، يجعل ترامب يخسر الانتخابات النصفية. لكنّ هذا أمر غير مؤكد!

أسطورة ترامب إذن أنّ العالم محتاج إلى الولايات المتحدة، لكنها ليست محتاجةً إليه لا في الاقتصاد ولا في العسكر ولا في التجارة ولا في الهجرة. بل في كل هذه الأمور ديونٌ للولايات المتحدة على العالم، ويكون على الجميع ردّ الدَّين اليوم قبل الغد.

قال لي مسؤول أوروبي، وقد استغربْتُ أمامه تراجُع إدارة ترامب في جنوب سوريا؛ إن الذين كانوا يضغطون على النظام والإيرانيين والروس في الجنوب هم العسكريون الأميركيون هناك، والإسرائيليون. وقد تحقق الجزء الإسرائيلي بابتعاد الإيرانيين عن حدودهم. أما الجزء الأردني فلا يرى ترامب ووزير خارجيته ضرورةً له إلاّ للمساومة المؤقتة. قلت: لكنّ التهجير بدأ! قال: لن يستمر الوضع إلاّ لأيام، والأميركان وافقوا على إقفال الأردن حدوده في وجوه الهاربين الجدد. ومع ذلك ستستمر أسطورة القوة الأميركية التي لا تقهر!