محمد عبد المحسن المقاطع 

 منذ أوائل التسعينات وقبل ظهور السيد أردوغان، وأنا أتابع الوضع السياسي في تركيا، قلب العالم، والدولة الأكثر شعباً وقوة في أوروبا، وصاحبة خامس أكبر جيش في العالم، والعاصمة الأوسع للقاءات العالم الإسلامي، سواء من كان على وفاق معها أو متحفظاً منها، أو ربما على خصومة معها.

تركيا في كل المقاييس تمتلك كل مقومات الدولة العظمى، وهو سر حظوتها الكبيرة بين الدول الصناعية الكبرى، وعلة تردد أوروبا بمنحها عضوية الاتحاد الأوروبي.
في مرحلة أوائل التسعينات مرت تركيا بوضع مفكك سياسياً، حيث بدأت تدور بدوامة الحكومات الائتلافية الضعيفة على النمط الإيطالي، ودولياً ليس لها تأثير يتناسب ووزنها الحقيقي، فهيمنة الجيش عليها منذ انقلاب كنعان أيفرن عام 1980 أدخل تركيا في نظام طغى عليه الفساد، وكانت الغلبة دوماً للجيش في مواجهة الحكومة المنتخبة، واقتصاديا انحدر الاداء الاقتصادي التركي، وتدهورت العملة، وصار دخل الفرد التركي متدنياً، اضطرت معه اليد العاملة التركية للهجرة الى أوروبا لاحقة رؤوس الأموال التي سبقتها هروباً من حالة اللااستقرار السياسي والاقتصادي. لكن اللافت للنظر هو التغيير الإيجابي، الذي بدأ يدب في الحياة العامة التركية منذ أواخر التسعينات، وهي المرحلة التي مهدت لوصول حزب التنمية والعدالة الى سدة الحكم، بعد أن نجح بصورة واسعة في انتخابات البلديات المحلية، وريثاً لحزب السلامة الذي كان يقوده نجم الدين أربكان.
ينبغي أن يدرك المتابع للشأن التركي أن أردوغان وحزبه، حينما نجح بصورة كاسحة في انتخابات ٢٠٠١ ــ ٢٠٠٢، لم يكن ذلك ظهوراً مفاجئاً، وإنما هو حصاد لعمل دؤوب لحزب السلامة منذ منتصف السبعينات بقيادة نجم الدين أربكان.
لكن عوامل الدفع الجديدة بإعادة هيكلة الحزب بنمط أوروبي حديث، وبقيادات شابة وتفكير براغماتي عملي ببرنامج اقتصادي، وبثوب إسلامي تجديدي، شكلت في جملتها مكونات النجاح للمرحلة الجديدة، فاكتسح حزب التنمية والعدالة الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فتمت معالجة اختلالات سياسية جوهرية، حيث تمت جملة من الإصلاحات الدستورية أعادت العسكريين الى ثكناتهم بعيدا عن رئاسة الدولة ومؤسساتها السياسية، تجذير الحكم المدني بإعادة صياغة مكونات النظام الديموقراطي والانتخابي على أساس المساواة والمشاركة على النمط الأوروبي، إعادة الهيبة للقضاء، وتمكين المحكمة الدستورية من صلاحياتها، تبني سياسات الانفتاح وفقاً لاقتصادات السوق، تعزيز الخدمات الاجتماعية، ورفع مستوى المعيشة ودخل الفرد، فكانت أول خمس سنوات مرحلة العبور المذهلة لتركيا، وهي سبب نجاح حزب العدالة والتنمية بأغلبية أوسع في الانتخابات الثانية، وهي التي جاءت بأردوغان لرئاسة الوزراء، بعد أن ألغى القضاء قيود منع ترشحه لها، واستمرت عجلة متواليات النجاح حتى ٢٠١١، لتكون انتخابات تركيا الثالثة دلالة اكتمال مشروع إعادة اعتبار الدولة التركية، فتضاعفت شعبية حزب العدالة والتنمية، وبلغت ما يفوق %75 من الشعب التركي، الذي ازدهرت أحواله، فعادت رؤوس الأموال، وبدأت هجرة العمالة التركية معاكسة الى الداخل، ومنذ تلك اللحظة تغيرت مراكز القوة والتأثير في أوروبا تتبدل، واكتسبت تركيا دوراً أكثر تأثيراً، فزاد ثقل تركيا بالعالم الإسلامي، لأنها كانت رائدة ومبادرة بتبني ورعاية قضايا العالم الإسلامي، وبدا القلق واضحا عند جارتها إيران، لإدراكها معنى وجود دولة إسلامية سنية متحفزة متاخمة لحدودها تدعم وتناصر السنة دولا، بل وشعوبا، وخصوصا في إيران، مما حمل إيران الى مغازلتها من منطلق مصالح الأضداد، ولعبت تركيا دورا فاعلا في تخفيف غلواء إيران بالعراق، وفي تحجيم تحالفها مع الأسد في سوريا، وهكذا صارت تركيا سنداً للعرب تتكامل معهم، بعد أن حولها الغرب المستعمر الى قومية ندية ضد العرب، ونزعها عن وسطها الإسلامي والعربي المنطقي، وصارت مصدراً حقيقياً لقلق إسرائيل، بسبب دعمها لفلسطين والقدس وحركة حماس على حد سواء، وصارت علاقتها بإسرائيل براغماتية فقط دون تضحية بقضايا المسلمين والعرب.
وجاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لتركيا لتشكل رسالة جلية على عزم الشعب التركي (%53 منه) لتعزيز مكانة دولته، التي يقودها اليوم حزب التنمية والعدالة بكل حرفة وتفوق، وقد حاولت العديد من الدول الغربية والكبرى، بل وبعض الدول العربية والإسلامية إجهاض تفوق السيد أردوغان وحزبه، فتحركت آليات الإعلام الغربي ومن حالفهم، وسايرتهم من بعض النخب العربية الانتهازية من الليبراليين، الذين أعمتهم تعصباتهم الفكرية أو أحكامهم الحمقاء على أي لافتة إسلامية لركوب موجة محاولة الإجهاض تلك، فلم يألوا جهداً، بثاً وكتابة وتحريضاً وتحاملاً، للاصطفاف ضد تركيا، رغم أنها الداعم الرئيس للقضايا العربية، وحجر العثرة للتمدد الفارسي في العراق وسوريا، والخنجر في خاصرة السياسات الإسرائيلية التوسعية، لكن ذلك هو داء التعصب الفكري الذي عصف بالعالم العربي، بسبب ضيق أفق التيارات الفكرية الليبرالية والعلمانية، التي تعاني دولنا وبكل أسف من تداعياتها.

إن تركيا اليوم دشنت صفحة جديدة ينبغي علينا نحن العرب والمسلمين ألا نفوتها، وأن نجعل من قوتها ومنعتها، التي ستزداد في السنوات السبع المقبلة مصدر قوة لنا، ولنترك عقلية التآمر والتحريض والخصومة، ولنتعامل مع مصالحنا من منطلقاتها القومية والوطنية، لتعظيم مكاسبنا وتعزيز منعتنا، وهو المسار الصحيح الذي اختارته الكويت كدولة في هذا المضمار.