«تمدُّد» إيران الخارجي ليس «تشيُّعاً» بل تصدير لأزمات داخلية!

صالح القلاب

لم تتوقف إيران عن إصرارها على مواصلة تمددها الاحتلالي في العديد من الدول العربية منذ أنْ بدأت «مبكراً»، قبل نحو خمسة عشر عاماً، بالإعلان عما وصفته بـ«الهلال الشيعي» الذي يبدأ أحد طرفيه باليمن وينتهي في لبنان، على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، مروراً ببعض دول الخليج العربي، الذي تسميه الخليج الفارسي، وبالطبع بالعراق وسوريا، ولعل آخر ما سمعناه بهذا الصدد ذلك التصريح الذي كان قد أطلقه علي خامنئي وأكد فيه أنَّ طهران لن تتخلى عن تمددها في الدول العربية التي توجد فيها والتي وصفها أكثر من مسؤول إيراني كبير بأنها تشكل مجالاً حيوياً لبلاده.
والواضح، لا بل المؤكد، أن إيران لا يمكن أن تنسحب لا من العراق ولا من سوريا وأيضاً ولا من لبنان إلّا بالمواجهة وبالقوة العسكرية وعلى غرار ما يجري الآن في اليمن حيث يشكّل الحوثيون مجرد غطاءٍ زائف لاحتلالٍ عسكري إيراني يشارك فيه «حزب الله» اللبناني الذي وصفه «صاحبه» حسن نصر الله بأنه لواء مقاتل في فيلق الولي الفقيه، ومثله مثل كل هذه الزمر والمجموعات الطائفية والمذهبية التي تقاتل على الأرض السورية والتي تم استيرادها من العراق ومن أفغانستان وباكستان والهند... ومن كل حدبٍ وصوبٍ كما يقال.
لقد اتخذ التدخل الإيراني كل الأشكال الاحتلالية البغيضة واستخدم «الرايات الشيعية» كمجرد غطاءٍ لأهداف ودوافع سياسية متعددة وكثيرة أهمها الحفاظ على هذا النظام البائس فعلاً الذي بدأ ومنذ سنواته الأولى بعد عام 1979 يواجه تحديات داخلية أكثر كثيراً وأخطر من كل تحدياته الخارجية.
إن المعروف أنّ هذا النظام كان قد ارتكب مذابح حقيقية بشعة بعد انتصار ثورته بأيام قليلة ضد أكراد كرمنشاه، لا لقمع ثورة قاموا بها ضده ولكن لاعتراض مطالبهم المحقة بأن تتم مساواتهم، كأتباع لـ«المذهب السني»، بمواطنيهم من الفرس والآذاريين وغيرهم من أتباع المذهب الشيعي الذي إذا أردنا قول الحقيقة فإنه استُخدم ولا يزال يستخدم غطاءً لكل عمليات القمع هذه السابقة واللاحقة التي قام بها حراس الثورة. وقامت الاستخبارات «اطّلاعات» الإيرانية التي تجاوزت بأفعالها الشنيعة أقصى ما كان يفعله جهاز الـ«سافاك» في عهد الشاه السابق محمد رضا بهلوي.
وهكذا، فإن المعروف أيضاً أن كل تجارب التاريخ، إنْ في منطقتنا وإنْ في العالم بأسره، تؤكد أنه عندما تبدأ دولة من الدول في المعاناة من أزمة أو أزمات داخلية فإنها تبادر من قبيل تصدير معاناتها وأزماتها إلى الخارج فِعْل كل هذا الذي فعلته إيران إنْ سابقاً بتفجير حرب الأعوام الثمانية مع العراق وإنْ لاحقاً من خلال كل هذا التمدد العسكري «الاحتلالي» في العراق وفي سوريا وفي لبنان... وأيضاً في اليمن ولاحقاً في ليبيا التي عندما كانت «جماهيرية» بقيادة العقيد معمر القذافي كانت من أقرب الحلفاء للدولة الخمينية.
إنَّ في إيران، وهذه مسألة تاريخية أسبابها متعددة ومختلفة، تركيبة سكانية «فسيفسائية»؛ فهناك قومياً العرب والأكراد والبلوش والآذاريون والأرمن والعديد من القوميات الصغيرة الأخرى. وهناك مذهبياً وطائفياً «السنة» والمسيحيون واليهود والإزيديون وغيرهم، ولذلك ولمواجهة مطالبة هؤلاء ليس بالانفصال وإنما بالمساواة مع الفرس فقد بادر هذا النظام الاستبدادي إلى مواجهتهم بالقمع وبالمذابح العديدة المتلاحقة.
وعليه وبغضّ النظر عن هذا كله فإن المعروف أن تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج مثله مثل تصدير الثورات، يُستخدم لاحتواء التفجيرات الداخلية، وهذا في حقيقة الأمر ما كانت إيران قد بادرت إليه باكراً بعد انتصار ثورتها الخمينية في عام 1979 مباشرة، إذْ كان هناك التحرش المستمر بالعراق الذي استُدرج إلى حرب الأعوام الثمانية المدمرة، وكان هناك استفزاز تبني احتلال الشاه محمد رضا بهلوي للجزر الإماراتية الثلاث، واستفزاز احتضان الحوثيين وإعدادهم عسكرياً وسياسياً لهذه الحرب التي افتعلوها في اليمن، ثم وقد كان هناك استفزاز تحويل «حزب الله»، حزب ضاحية بيروت الجنوبية، إلى قوة عسكرية باتت تتدخل في الشؤون الداخلية للعديد من الدول العربية، وكان هناك أيضاً احتضان ما كان قد قام به جميل الأسد شقيق حافظ الأسد الذي أسس تنظيماً باسم «المرتضى» قام بعمليات تغيير طائفي وبخاصة في مناطق سوريا الشمالية - الشرقية.
ما كان من الممكن أن يستمر هذا النظام، البدائي حقاً، كل هذه الفترة الطويلة منذ فبراير (شباط) عام 1979، حتى الآن، لو لم يبادر إلى تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج ومنذ البدايات، ولو لم يشغل الشعب الإيراني العظيم فعلاً بكل هذه الحروب المدمرة التي افتعلها مع العديد من دول المنطقة. وحقيقةً إن أخطرها ليست حرب الأعوام الثمانية التي افتعلها مع العراق فقط، وإنما أيضاً هذا الاحتلال العسكري لسوريا وهذه السيطرة العسكرية على بلاد الرافدين والسيطرة السياسية من خلال «حزب الله» على لبنان. ولعل الأخطر من هذا كله هو استخدام الغطاء المذهبي لكل هذا الذي قامت به طهران في هذه المنطقة كلها وصولاً إلى ليبيا، جماهيرية القذافي السابقة، وإلى الجزائر.
ثم إنّ ما يعزز كل هذا الذي مرَّ ذكره أن قائد الحرس الثوري الإيراني، الذي هو كل شيء في طهران والذي لا قرار إلا قراره في هذا البلد الكبير المهم، قد وجّه قبل أيام قليلة انتقادات شديدة إلى ما وصفه ببطء تمدد «الثورة» في الخارج، وتراجع «التفكير الثوري». والواضح أن هذا قد جاء رداً على مطالبة المتظاهرين الإيرانيين بالانسحاب من سوريا ومن العراق، والتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والإسلامية القريبة والبعيدة.
لقد قال الجنرال محمد علي جعفري في خطاب بمؤتمر لأساتذة الجامعات، المؤيدين للثورة، وبكل صراحة بل بكل وقاحة: «إن انتصارات شعوب العراق ولبنان وسوريا قد حدثت (تحققت) نتيجة التبعية للثورة الإيرانية»! وأضاف: «إن كل هذه العزة والقوة وتمدد الثورة في المنطقة والعالم قد تمت في مرحلة تثبيت النظام الإيراني، وإن ما جرى في هذه الدول (أي الدولة العراقية والدولة السورية والدولة اللبنانية) هو إنجاز كبير لإيران.
فماذا يعني كل هذا الذي قاله قائد الحرس الثوري الذي هو كل شيء في إيران ولا قرار إلا قراره...؟!
إنه يعني أن بقاء هذا النظام كل هذه السنوات الطويلة منذ (فبراير) عام 1979 حتى الآن، كان مستنداً إلى تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج من خلال تمدده العسكري في العراق وسوريا ولبنان وأيضاً في اليمن وليبيا، مما يؤكد أنه لن يكون هناك أي انسحاب إيراني من أيٍّ من هذه الدول وبخاصة الدولة السورية إلّا بالضغط الجدي وبالقوة العسكرية، وهذا وللأسف لم يجرِ منه أي شيء حتى الآن... لا من قِبل الأميركيين ولا من قِبل غيرهم.
لقد أقحم هذا النظام الاستبدادي المتخلّف، إيران أولاً والعديد من دول هذه المنطقة ثانياً، في حروب مدمِّرة بالفعل، والهدف ليس تعزيز المذهب الشيعي ولا العمل على انتشاره وإنما تصدير أزماته الداخلية والهروب من مشكلاته المتلاحقة التي بدأت مع بدايات انتصار «ثورته» في فبراير عام 1979. والغريب أنه حتى الولايات المتحدة في عهد جورج بوش (الابن) قد ساعدته كثيراً في هذا المجال عندما فتحت له أبواب العراق على مصاريعها بعد إسقاط نظام صدام حسين في عام 2003.
وعليه، فإن التصدي لهذا النظام يجب أن يكون من خلال مواجهة تمدده (الاحتلالي) في بعض الدول العربية، وعلى غرار ما يجري الآن في اليمن، فإعادته إلى داخل إيران تعني عودة أزماته ومشكلاته الداخلية إليه، وتعني وضع حدٍّ لكل محاولات استخدام الشيعة العرب الذين باستثناء قلة قليلة مغرَّر بها ثبت أنهم متمسكون بعروبتهم وأنهم يعرفون أنَّ دوافع محمد علي جعفري وقاسم سليماني ليست «شيعية» وإنما للحفاظ على نظام استبدادي بات يغرق في أزماته الداخلية الكثيرة رغم كل محاولات تصديرها إلى الخارج بالعنف والقوة العسكرية.