محمد السماك

منذ أن قرر البابا فرنسيس بعد انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية عدم الإقامة في القصر البابوي المخصص له، واختار فندق الضيافة المتواضع جداً «سانتا مارتا»، دخل «الفاتيكان» مرحلة جديدة من تاريخه الطويل. كانت الإشارة الأولى للتحوّل، اختيار البابا اسماً جديداً له، هو فرنسيس، بدلاً من اسمه الأرجنتيني، تمثلاً بالقديس فرنسيس الذي يُعتبر أب الفقراء، والذي أنفق الثروة الكبيرة التي ورثها عن عائلته لمساعدة هؤلاء الفقراء، حتى أنه عاش بقية حياته وكأنه واحد منهم. وخلافاً لكل الباباوات الذين سبقوه، فإن البابا فرنسيس يصرّ على أن يحمل حقيبته الخاصة بنفسه. وأن يدفع فاتورة الفندق الذي ينزل فيه.

وخلافاً لكل الباباوات أيضاً الذين عملوا بقاعدة «عصمة البابا»، فإن البابا فرنسيس عندما سُئل عما إذا كانت تصح صلاة الشاذين جنسياً، أجاب: «مَن أنا حتى أحكم على ما في قلوبهم».

ومع تغير سلوك البابا، تغيرت صورة الفاتيكان. فوزير مالية الفاتيكان –كاردينال أستراليا- يحاكَم الآن في بلاده بتهمة التغطية على قساوسة ارتكبوا جرائم جنسية ضد الأطفال.
ويرتفع من هونج كونج صوت كاردينال الجزيرة المستعصية على الصين، رافضاً ومحتجاً على انفتاح البابا فرنسيس على الحكومة الصينية في بكين، وقبوله بمقترحاتها لمشاركته في تسمية كبار الأساقفة الصينيين وتحديد مهامهم. وكان هذا الأمر يعتبر حقاً مقدساً من حقوق الكنيسة لا يقبل أي مراجعة أو مشاركة من أي نوع.

لم يعرف الفاتيكان في تاريخه الطويل صوتاً معارضاً للبابا من داخل الكنيسة. فالبابا بموجب قوانين الكنيسة ليس معصوماً فقط، ولكنه يمثل السيد المسيح. وبالتالي فإن معارضته تعتبر معارضة لمن ولما يمثل. غير أن هذا المنطق تغير الآن.

فالفاتيكان يلتزم بموقف مبدئي ضد إجهاض المرأة، أياً تكن الأسباب. ولكن الاستفتاء العام الذي جرى في إيرلندا، وهي دولة كاثوليكية بامتياز، أسفر عن تأييد كبير وبأكثرية مطلقة لحق المرأة في الإجهاض. وفوق ذلك يتولى رئاسة الحكومة في هذه الدولة الكاثوليكية رئيس يقول عن نفسه إنه شاذ جنسياً. ومن قواعد التفاهم بين الفاتيكان وإيطاليا، أن يكون الفاتيكان (الذي هو عبارة عن ميل مربع داخل مدينة روما) دولة مستقلة، لها سفراؤها ولها أمنها الداخلي ولها عملتها وبريدها الخاص.. إلخ. ولكن من هذه القواعد أيضاً أن يكون البابا هو رئيس أساقفة العاصمة الإيطالية روما. غير أن في الحكومة الإيطالية الجديدة وزيراً سبق أن أعلن عن نفسه أنه علماني لا يؤمن بأي دين. وتتبنى هذه الحكومة الجديدة سياسة سلبية من المسلمين عامة ومن المهاجرين خاصة، مناقضة في الشكل والأساس لما يدعو له البابا ولما قام به هو نفسه.

فالبابا فرنسيس قام بمبادرة تجاه المهاجرين السوريين تمثلت في زيارة مخيماتهم في جزيرة ليسبوس اليونانية، ونقل معه على متن طائرته مجموعة منهم إلى روما، حيث وفّر لهم الإقامة في مأوى خاص يديره الفاتيكان. وذهب إلى أبعد من ذلك، فقد قام «يوم الجمعة العظيمة» بغسل أرجل نساء ورجال مسلمين، وهو تقليد مسيحي للتأكيد على التواضع والسماحة.

بدأت صورة الفاتيكان الجديد تتكون حتى قبل انتخاب البابا فرنسيس. ففي شهر شباط – فبراير من عام 2013، استقال البابا السابق بنديكتوس السادس عشر –وهو ألماني- وقبل تلك الاستقالة لم يشهد تاريخ الفاتيكان حدثاً من هذا النوع طوال 598 عاماً. وقد أدت استقالته رغم كل الظروف التي أحاطت بها إلى تغيير جذري في تركيبة وفي دور المؤسسات الفاتيكانية. ذلك أنه لأول مرة في التاريخ يتعامل الفاتيكان مع واقع جديد يتمثل بوجود بابا منتخب (فرنسيس) وبابا مستقيل (بنديكتوس).

البابا لم يعد يُنتخب مدى الحياة. وهي تعني كذلك أنه (البابا) لم يعد صاحب سلطة مطلقة يمارسها باسم المسيح، ولكنه أصبح هو نفسه كما فعل البابا فرنسيس مراراً، يشكك في صلاحيته بالحكم على ما في ضمائر الناس. ومن الواضح أن البابا فرنسيس في مواجهته لمعارضة متصاعدة من الداخل ومن الخارج معاً، يحاول جاهداً أن يقدم للمسيحية خاصة، وللعالم كله فاتيكاناً جديداً، يستقوي بشعبية عالمية.