حسين شبكشي

 عندما أتابع الأخبار كعادتي التي لا تنقطع لا أتمالك نفسي من الاندهاش والاستغراب وأنا أرى تكرارا لا ينقطع لعبارات مثل «العالم العربي يمر بمنعطف تاريخي»، أو «هذه مرحلة غير مسبوقة» بينما نردد في مجالسنا دوما أن التاريخ يكرر نفسه. 

وهذه المقولة الأخيرة قد تكون أقرب للواقع فعلا، فهناك الكثير من الأحداث التي نعيشها اليوم مرت علينا في السابق أحداث «شبيهة بل ومطابقة جدا لها». والعالم العربي بمجمله هو عالم «منغمس» في التاريخ يتنفس الماضي ويستمد شرعية وجود اليوم من الأمس ولذلك يقل جدا الاهتمام بالتفكير وصناعة المستقبل. 
هناك أبحاث ونظريات جادة لاختصاصي علوم المستقبليات تقول وبثقة كاملة إننا مقدمون على قفزة في مسيرة الإنسان فيها طلاق مع التاريخ لأن ما هو آت لم يسبق إن كان مثله من قبل. قرأت مؤخرا كتابين في هذا المجال، الأول للكاتب الياباني الأصل ميشيو كاكو، وهو عالم فيزيائي محترم لها إصدارات مهمة وعنوان كتابه الأخير «مستقبل البشرية» فيه يتطرق إلى أشكال «الواقع الجديد» والذي سيتكون من عدة عناصر مستجدة ولعل من أهمها السفر والترحال بين النجوم والكواكب، و«تحويل» كوكب المريخ ليكون ملائما لمعيشة الإنسان على سطح هذا الكوكب البعيد، ويتحدث بإسهاب عن التطور المذهل المنتظر للذكاء الصناعي، والإنسان الآلي وتقنية النانو وتقنية الأحياء البيولوجية، ويبحر في إمكانيات هذه التقنية للوصول إلى أهم اكتشافات العلوم في حسب رأيه وهو الكوكب التوأم لكوكب الأرض خارج المنظومة التقليدية للكواكب المعروفة بالمجموعة الشمسية. والكتاب الآخر الذي يحاول استقراء المستقبل هو للكاتب الأكاديمي الإسرائيلي المعروف يوفال نواه هراري بعنوان «هومو ديوس تاريخ مختصر للغد» والكتاب يجيء بعد أن نجح كتابه السابق «سابينز» عن تاريخ البشرية القديم. 
وفي كتابه الجديد يحاول المؤلف تقديم تصور علمي مبني على نظريات ذات فرضيات قوية جدا، ولعل أهم ملامح المستقبل الذي يراه ممكنا هو انتهاء فكرة الحروب تماما من الثقافة البشرية، ويعتقد أنه من الأرجح أن ينتحر الشخص من أن يفقد حياته في أحد الصراعات، وأيضا هو يتوقع نهاية «المجاعة» من قاموس وواقع البشرية وأن ما سيكون مقلقا للناس هو التخمة وأمراض السمنة وليس المجاعة وسيكون مصطلح «مات بنتيجة الأعراض الطبيعية» منقرضا مع تطور أساليب الوقاية والعلاج والتشافي نتاج التطور العظيم في الاستفادة من الخلايا الجذعية واستحداث قطع غيار بشرية ذاتية الصنع أو نتاج الطباعة الثلاثية الأبعاد.


بقدر ما يقدم الكتابان رؤية واستقراء لمستقبل مدهش ومذهل ومختلفة «تماما» عما نحن عليه اليوم بقدر ما يتلقى القارئ المنغمس في الماضي، هذا الطرح بقدر عظيم من الاستهزاء والسخرية وعدم المبالاة والتصديق لأنه يجد راحته في البقاء داخل قوقعة «آمنة» تحميه من عدم المشاركة في صناعة المستقبل وهو كونه «كان» من صناع ماضٍ عظيم رغم كون ذلك الماضي مليئا بعلامات الاستفهام والتعجب من جهة ولا علاقة لأبناء اليوم بصناعة هذا الماضي نفسه. وهنا يمكن الفرق بين الغرب وغيرهم من الأمم، فهم كانوا صناع حضارات وعلوم وثقافات بالأمس واستمروا دون انقطاع على عكس أمم وشعوب أخرى. 
وبالتالي إذا قرأت بعد ذلك عبارات مثل «التاريخ يكرر نفسه» أو «نحن أمام منعطف تاريخي وغير مسبوق» اسمح لنفسك أن تبتسم وتضحك وتقهقه وتأكد أن ذلك ما هو إلا إبرة «بنج كلي» الغرض منها تمجيد التاريخ وتغييب الحاضر والمستقبل. لم أرَ أي ترجمات لكتب معنية بالمستقبليات باللغة العربية قدر الاهتمامات الأخرى مثل الروايات والطهي وتطوير الذات نظرا إلى «وصمة الشك» في هذه النوعية من الكتب التي أحاط بها بعض الدعاة واعتبروها نوعا من قراءة الغيب وطبعا هذا رأي غير دقيق أبدا، ولكنه يأتي إضافة إلى آراء أخرى بات من المطلوب الخلاص منها. 
علم المستقبليات بات مسألة مؤثرة وحقيقية وكثير من الاختراعات التي نعيشها اليوم هي نتاج ما تم التطرق إليه منذ حقبة الخمسينات الميلادية وما بعدها عن طريق محاولة استشراف المستقبل علميا.