محمد السعد

بعد القضاء على الانكشارية بمجرد تمردهم وعصيانهم على السلاطين العثمانيين، تراجعت فتوحات الدولة العثمانية، وبدأت تخسر أراضيها تباعا، ودب في أوصالها المرض حتى شارفت ساعة نهايتها وسقوطها

ارتبط التاريخ العثماني بأهم عنصر من عناصر قوته، وأغرب مظهر عسكري عرفه التاريخ، وهو ما يعرف بالجيش الانكشاري أو الجيش الجديد، وهو جيش غريب من نوعه، ومع غرابته وتعارضه مع أبسط مبادئ الإنسانية وأسس الرحمة، فقد ارتبط مصير ومستقبل الدولة العثمانية إلى حد كبير بالانكشارية، واعتمدت عليه في فتوحاتها وتمددها في شرق العالم وغربه، فقد كانت الانكشارية عماد المؤسسة العسكرية العثمانية وسر قوتها.
يرجع زمن تأسيس الجيش الانكشاري إلى عهد السلطان أورخان، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك إلى عهد السلطان مراد الأول، وقد غلبت عليه منذ تأسيسه التصاقه التام بالطرق الصوفية، حيث ارتبط بالطريقة الصوفية البكتاشية، ويظهرون نحو شيوخها طاعة تامة وصلت إلى حد الولاء العميق.
فقد استحدث العثمانيون قانونا جديدا يعرف بمسمى «الدوشرمه» أي ضريبة الدم، الذي نص على انتزاع الأطفال المسيحيين من أهلهم، وفصلهم عن كل ما يتعلق بحياتهم الاجتماعية والأسرية ومعتقداتهم الدينية. ومما لا شك فيه أن العثمانيين بعملهم هذا قد خالفوا تعاليم الشريعة الإسلامية على الرغم من تبريرهم ذلك بدافع العرف والمصلحة.
يقول عبدالعزيز محمد الشناوي في كتابه الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها: «كانت الدولة تبعث مندوبين إلى المناطق التي تقطنها العائلات المسيحية. ويجتمع المندوب مع القسيس ويطلب كشفا بأسماء الأطفال الذكور الذين قام بتعميدهم، ولم يكن هناك قانون معين أو لائحة تحدد طريقة اختيار الأولاد الذين يتعين إحضارهم للسلطان. ويشكل المجموع الكلي للأولاد الرقم النهائي للغلمان الذين تحتاج إليهم الدولة في فترة معينة لإعدادهم للخدمة في القوات المسلحة».
وكانت الدولة العثمانية تمارس جمع الأولاد من الريف في العادة، وكانت تأخذ أولاد المزارعين، وتحرص في معظم الأحوال على أخذ الأولاد الذين تتراوح أعمارهم بين سن السابعة وسن العاشرة، ويتم عزلهم نهائيا عن العالم الخارجي عن طريق وضعهم في ثكنات عسكرية، وقطع أي صلة بينهم وبين ذويهم، فكان الفرد منهم يعيش دون أمل في أن تكون له زوجة أو بنين وبنات حيث لا يجوز لهم أن يتزوجوا، فالسلطان العثماني والده الروحي والثكنة العسكرية مأواه والحرب هي مهنته الوحيدة.
وهذه الحياة القاسية قد حولتهم لأفراد متوحشين يجوبون الشوارع لنهب المنازل وهتك الأعراض، وأما داخل ساحة المعركة فيكفي أن نذكر أن الانكشارية كانوا يكافؤون بقدر عدد رؤوس القتلى، فصار هم جندي الانكشارية جمع أكبر قدر من الرؤوس المقطوعة وتسليمها للقائد للحصول على المكافأة.
أفراد هذا الجيش الذين تم انتزاعهم من أحضان أمهاتهم قسرا، هم وراء كل انتصارات الدولة العثمانية على ساحات القتال، ولكن بعد القضاء على الانكشارية بمجرد تمردهم وعصيانهم على السلاطين العثمانيين، تراجعت فتوحات الدولة العثمانية، وبدأت تخسر أراضيها تباعا، ودب في أوصالها المرض حتى شارفت ساعة نهايتها وسقوطها.
وطريقة إلغاء هذا الجيش لا تقل وحشية وقسوة عن طريقة تكوينه، فبعد أن كثر عصيانهم وتدخلهم في شؤون السياسة العليا، حتى أنهم صاروا يقررون عزل وتنصيب السلاطين العثمانيين، فقرر السلطان محمود الثاني التخلص منهم، حين سلط عليهم المدفعية التي ضربت ثكناتهم وقتلتهم بصورة أشبه ما تكون بالإبادة الجماعية.