عبدالحق عزوزي

يصح لنا بعد سنوات من انطلاق احتجاجات «الربيع العربي»، والتي كان أصلها ومرجعها الاحتجاجات العارمة في تونس في ديسمبر 2010، أن نتفق مع كل أولئك الذين يكتبون أن الخريف السياسي هو السمة الأساسية للعديد من الدول، والتي كان بالإمكان أن ترسم لنفسها مساراً أكثر نضجاً وأكثر عطاءً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فبناء الدول، مثله مثل بناء مؤسسات بنكية وشركات كبرى، يستلزم تواجد أهل الاختصاص في التسيير ويستوجب الاستناد إلى القواعد التي يتعارف عليها الثقلان، وإلى الأدوات التي تضخ الهواء النقي في كل العروق، وإلى الاستقواء بالداخل بدل الارتماء في أحضان القوى الجهوية والدولية.

كما يصح لنا أن نكتب أن المؤامرة الدولية لتمزيق الوطن العربي ليست غائبة ولا يمكن أن ينكرها أي متتبع حصيف منذ وعد بلفور، وسايس بيكو، وإقامة إسرائيل.. وصولاً إلى ما يُفعَل بالمنطقة في سوريا وليبيا ولبنان واليمن. لكن هذه المؤامرات كان سيكتب لها الاضمحلال لو وجدت حصوناً مشيدة في شعوبنا وأوطاننا. فالولايات المتحدة الأميركية، ذات الاقتصاد الأقوى في العالم، عندما بدأت في تطبيق إجراءات جمركية بحق كندا وأوروبا والصين، عاقبوها بالمثل؛ ولو طبقتها يوماً بحق بعض الدول العربية ما تجرأت هذه الدول على الدخول في مثل هذا الصراع، وهنا يظهر الفرق‏!

إن ‬الدعوات ‬إلى ‬تمزيق ‬العرب ‬وجعلهم ‬خارج ‬التاريخ، ‬كانت ‬دوماً ‬موضع ‬التقارير ‬والتوجيهات ‬الاستراتيجية ‬التي ‬تكتب ‬سراً ‬وعلناً ‬بأيادي ‬محسوبة ‬على ‬اللوبي ‬الصهيوني، ‬مثل ‬المعهد ‬الأميركي ‬لأبحاث ‬السياسة ‬العامة، ‬ومعهد ‬التراث، ‬ومعهد ‬أبحاث ‬السياسة ‬الخارجية، ‬ومعهد ‬بروكنجز، ‬والمعهد ‬اليهودي ‬لشؤون ‬الأمن ‬القومي، ‬ومعهد ‬دراسات ‬السياسة ‬والاستراتيجية ‬المتقدمة.. إلخ. ‬

في ‬مقابلة ‬له ‬منذ ‬أزيد ‬من ‬عشر ‬سنوات، ‬قال ‬برنار ‬لويس: «إن ‬العرب ‬والمسلمين ‬قوم ‬فاسدون ‬ومفسدون، ‬فوضويون ‬لا ‬يمكنهم ‬التحضر، ‬وإذا ‬تُرِكوا ‬لأنفسهم ‬فسوف ‬يفاجئون ‬العالم ‬المتحضر ‬بموجات ‬بشرية ‬إرهابية ‬تدمر ‬الحضارات ‬وتقوض ‬المجتمعات، ‬لذا ‬فالتعامل ‬السليم ‬معهم ‬هو ‬إعادة ‬احتلالهم ‬واستعمارهم، ‬وفي ‬حال ‬قيام ‬أميركا ‬بهذا ‬الدور ‬فعليها ‬أن ‬تستفيد ‬من ‬التجربتين ‬البريطانية ‬والفرنسية ‬في ‬المنطقة، ‬لتجنب ‬الأخطاء ‬والمواقف ‬السلبية ‬التي ‬اقترفتها ‬الدولتان.. ‬ومن ‬الضروري ‬إعادة ‬تقسيم ‬الأقطار ‬العربية ‬والإسلامية ‬إلى ‬وحدات ‬عشائرية ‬وطائفية، ‬ولا ‬داعي ‬لمراعاة ‬خواطرهم ‬أو ‬التأثر ‬بانفعالاتهم ‬وردود ‬أفعالهم، ‬ولذا ‬يجب ‬تضييق ‬الخناق ‬على ‬هذه ‬الشعوب ‬ومحاصرتها ‬واستثمار ‬التناقضات ‬العرقية ‬والقبلية ‬والطائفية ‬فيها، ‬قبل ‬أن ‬تغزو ‬أميركا ‬وأوروبا ‬لتدمر ‬الحضارة ‬فيها».

‬ومن ‬يرى ‬ما ‬وقع ‬في ‬العراق ‬وما ‬يقع ‬في ‬سوريا ‬ولبنان، ‬يفهم ‬ذلك ‬الكلام ‬الذي ‬لا ‬يحتاج ‬إلى ‬مزيد ‬من ‬التعليق.

كبار المتخصصين حول العالم في أدبيات التحول الديمقراطي أسسوا في مجال العلوم السياسية المقارنة ما يسمى (‏Democratization studies)‬، ‬وعلى ‬رأسهم ‬فيليب ‬شميتر ‬وألفرد ‬ستيبان. ‬وقد ‬ميزوا ‬في ‬مسيرة ‬الدول ‬التي ‬تعرف ‬انهيار ‬النظام ‬السلطوي ‬بين ‬التحول ‬الديمقراطي ‬وتثبيت ‬الديمقراطية، ‬بمعنى ‬أن ‬التحول ‬لوحده ‬لا ‬يكفي ‬لتكريس ‬الفكرة ‬الديمقراطية كواقع؛ ‬فالديمقراطية ‬تبقى ‬في ‬خانة ‬الانتظار ‬إذا ‬لم ‬يتغير ‬المجال ‬السياسي ‬المشوه، ‬من ‬سلطة ‬ودولة ‬ومجتمع ‬مدني ‬وأحزاب ‬سياسية، ‬إلى ‬مجال ‬سياسي ‬حقيقي ‬يتساوى ‬فيه ‬الجميع ‬ويتبارز ‬فيه ‬الفاعلون ‬على ‬قواعد ‬ديمقراطية. وبعد دخول المجتمع السياسي الحديث إلى هذه الخانة، يمكن حينئذ تسمية الدولة الناشئة بالدولة الديمقراطية، إذ نكون قد انتقلنا من فترة التحول الديمقراطي إلى فترة التثبيت الديمقراطي. بمعنى آخر، فإنه أيّاً كان التغيير ونوعيته وطريقته (عبر تدخل أجنبي أو عن طريق ثورة أو من خلال تأثير الدول المجاورة أو عن طريق الميثاق التعاقدي.. إلخ)، فإن تثبيت الديمقراطية يبقى رهيناً بالمسار الذي يعطيه الفاعلون للتحول المنشود.

والظاهر ‬أنه ‬في ‬أوطاننا ‬العربية، ‬بسبب ‬ضعف ‬القشرة ‬الحامية ‬للدول، ‬وبسبب ‬ضعف ‬الفاعلين ‬السياسيين، ‬وضعف ‬الثقة ‬بين ‬أطراف المجال السياسي، ‬وضعف ‬الوعي ‬الثقافي، ‬فإنه ‬سريعاً ‬ما ‬تجد ‬المؤامرات ‬الدولية ‬المعدَّة ‬بإحكام ‬منفذاً ‬لها ‬في ‬تلك ‬الدول ‬لتنمي ‬الأحقاد ‬وتفتت ‬المفتت ‬من ‬خلال ‬الحقن ‬الطائفي ، ‬ثم ‬تجزئة الكيان الوطني ‬على ‬مقاسات ‬تلبي ‬رغبة «أبو ‬الكيديات ‬الخاصة»، أي ‬إسرائيل، ‬لقرن ‬قادم ‬على ‬الأقل!