سليمة فراجي 

 تم الارتقاء بالقضاء كسلطة، ويمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القضاة بخصوص مهامهم القضائية أية أوامر أو تعليمات، كما أنهم لا يخضعون لأي ضغط بما في ذلك ضغط الشارع، وانه مخول لهم تولي مهمة حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم.

وموازاة مع دستور 2011 الذي ارتقى بالقضاء كسلطة من جهة، ورفع سقف الحقوق والحريات من جهة أخرى، تنامت ظاهرة المحاكم الشعبية التي أصبحت تدين سلوكات البعض وتشيد بمواقف البعض الآخر، مستعملة في ذلك شبكات التواصل الإلكتروني، لتتحول المحاكمة الشعبية والمحاكمة الإعلامية، والسلطة الفاسبوكية إن صح القول أحيانا، تدخلا سافرا في القضايا المعروضة على المحاكم أو بالأحرى محاكمة المحاكم.

ولعل الأمثلة على هذا التدخل كثيرة وتتخذ أشكالا متنوعة؛ فمثلا قضية الصحافي توفيق بوعشرين واكبتها لجنة الحقيقة والعدالة في قضية بوعشرين، ولجنة الدفاع عن بوعشرين، ولجنة الدعم لبوعشرين، وكأن الأمر أصبح يتعلق بتشكيك في سلطة وحياد ونزاهة وتجرد القضاء، أو محاولة للضغط والتأثير على مجريات الأمور بما في ذلك الخرجات الإعلامية الفرجوية من لدن البعض في خرق سافر لقواعد اللياقة والاحترام والصدق، والانتصار للشعبوية، بالرغم من أن الدستور كان صريحا في التنصيص على أن القضاة لا يخضعون لأي ضغط.. الأكثر من ذلك لو أن أية محاكمة عرفت مواكبة محاكمات الإجراءات وتدخل السلطة الشعبية والإعلامية والفاسبوكية لما تمكن القضاء من ممارسة سلطاته باستقلالية، ولو أن هذه المحاكمات أو ممارسة الرقابة على القضاء همت جميع المتقاضين لتساءلنا عن جدوى الارتقاء بالقضاء إلى سلطة قضائية..

في المقابل، فإن حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه وممارسته لجميع الطعون وفق ما يقتضيه القانون، ويعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به، وأن لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وأحكام تصدر داخل آجال معقولة وحقوق دفاع مضمونة أمام جميع المحاكم...

لذلك، إذا كانت الترسانة الدستورية والقانونية تنص على هذه الاختصاصات والضمانات، فإن التدخل بجميع أشكاله في القضايا المعروضة على القضاء أو محاولة الضغط بوسائل يتم التفنن في ممارستها باسم حرية التعبير يعدان مخالفة للمقتضيات الدستورية والقانونية وضربة موجعة لدولة القانون، خصوصا أن الخطاب الشعبوي وانتقاء الكلمات التحريضية والتي لم ينبذها حتى بعض المسؤولين البارعين في فن الخطاب الشعبوي لما أوردوا عبارة تغيير المنكر في سياق الحديث وإدانة لشرع اليدين..

لقد أصبح البعض يعتقد أن حق التدخل مشروع لتغيير المنكر، فتمت معاينة حالات ووقائع مختلفة على شاكلة حلق رأس فتاة بمقصف الجامعة، وتعنيف فتيات إنزكان، ومثلي فاس، وقبلة الناظور، ورجم لص بسوق بومية حتى الموت واعتداء آسفي وما يستتبع ذلك من استخفاف بهيبة الدولة وتبخيس دور السلطة القضائية؛ لأن الاحتكام إلى الشارع من أجل تنزيل العقاب يجعلنا نؤسس لمجتمع الفوضى وثقافة الأخذ بالثأر... كما أن الغليان المتبوع بالانتقام أو الاحتجاج الإلكتروني المكثف والمنمق بعبارات مشجعة ومحرضة على الفوران والغليان قد يؤثر على السير العادي للمساطر القضائية ولو بصفة غير مباشرة..

مثلا لما صدر الحكم المخفف في حق المثليين، في المقابل قضت المحكمة بعقوبات سالبة للحرية في حق المهاجمين.

وفي ملف ولد الدرهم لما كثر اللغط الكبير الذي واكب التداول في القضية على حد تعبير دفاع المتهم حول جنحة السياقة في حالة سكر، لأن القضية تناولتها شبكات التواصل الاجتماعي بشراسة وبطوفان من الغضب، صدر حكم قضى بالحبس النافذ لمدة سنتين بعد إضافة تهم أخرى تخص التزوير، مع أن العقوبة المقررة تحددها مدونة السير في الحبس من ستة أشهر إلى سنة وغرامة من خمسة آلاف إلى عشرة ألف درهم أو إحدى العقوبتين فقط، وبعد أن خفت وهج الانتشار الإلكتروني، وقضاء المتهم 13 شهرا و46 يوما في السجن صدر قرار قضى ببراءته..

لذلك، فإن استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، في إطار توازن السلط وتعاونها، لا يعني خضوعها لسلطة التحركات المواكبة للقضايا بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي لما في ذلك من تأثير وتدخل من شأنه الانحراف بأحكام القضاء عن مبادئ العدالة والإنصاف وأحكام القانون وسلامة الإجراءات، فإذا كان حكم الدرجة الأولى مجحفا ومجانبا للصواب حسب البعض، فإن ممارسة حق الطعن قد يعيد الأمور إلى نصابها في إطار القانون دون ممارسة الضغط على القضاء بوسائل وكيفيات غير مشروعة..