موسى برهومة 

لو لم تكن الأديبة والناشطة المصرية نوال السعداوي موجودة، لصار من الضروري إيجادها، لأنّ أية ثقافة لا تتنفس من رئة هذا الصوت المخالف، هي ثقافة عاجزة وخائفة وجبانة.


ولا تتوخى هذه الكتابة الدفاع عن السعداوي، فالمرأة، التي نيّفت على الثمانين، ذاتُ لسان سليط وعقل متوقد، وتستطيع الدفاع عن ذاتها وعن مشروعها الذي تمثل في معارضة سياسات الاجتماع وقوانين السياسة وشؤون الدين والدنيا، من دون أن تزعم أنّ لديها نظرية خاصة في هذا الشأن، وهذ أمر يسجّل لمصلحتها.

تعترف السعداوي بمأساة المرأة العربية التي تنشقّ عن القطيع، وتتألم وتدفع الثمن إن هي اختارات المواجهة وتسمية الأشياء بأسمائها، كما فعلت السعداوي التي تقرّ: «جريمتي الكبرى أنني امرأة حرّة في زمن لا يريدون فيه إلا الجواري والعبيد، ولدتُ بعقل يفكّر في زمن يحاولون فيه إلغاء العقل».

هذه الأطروحة التي تجهر بها امرأة، ليست حدثاً مألوفاً في الثقافة العربية التي مكّنت المرأة، عبر عقود من النضال، من إثبات حضورها في الشأن العام، لكنها ظلت تعيب عليها المساس بما تعتبره مقدساً، لأنّ المطلوب من المرأة والرجل على حد سواء أن يظلا تحت مظلة الثقافة السائدة، وأن تظل معارضتهما، إن وجدت، في إطار منضبط، لا يلقي حجارة في المستنقعات، ولا يثير جلبة، ولا يقاوم سلطة، ما يعني ألا تكون معارضة في الأساس.

بيْد أنّ السعداوي أدركت هذه الخديعة مبكراً، ووعت مقدار الضغوط التي تمارس عليها من أجل تدجينها وتطويعها وإلحاقها في النظام الاجتماعي المستسلم المستكين، فرفضت واعتصمت بالاحتجاج. ولعل عملها طبيبة جعلها تدرك الجذر الاجتماعي والاقتصادي للمآسي العربية التي تفسد النساء وتعبث بالأسرة وتجعل الأطفال فريسة للهيجان الغريزي المتوحش، الذي يتحرك بدوافع غامضة أساسها الجهل والرغبة في الهيمنة على هذا الجسد وحبسه.

شقّت السعداوي عصا الطاعة، فراحت تحارب على جميع الجبهات، ورأت أنّ الخلاص ربما يكمن في هذه المهمة الانتحارية، في مجتمع لا يتقبل الآراء الناقدة لكينونته، فما بالك إن صدرت عن امرأة تدعو إلى مراجعة النصوص الدينية في الكتب السماوية الثلاثة، وفحص مدى قدرتها على مواكبة إيقاع العصر، ودفعت باتجاه مقاربة الغايات المقاصدية لتعدّد الزوجات ومساءلة عدم المساواة في الإرث، وقدّمت تصورها في قضايا الختان، والمثلية، والاستبداد، والتطرف الديني، والقوى التي تريد سجن المجتمع، وبخاصة النساء، في زنزانة النصوص المقدسة، وسوى ذلك من قضايا لم تجرؤ عليها، في التاريخ العربي المعاصر، سوى قلة نادرة من النساء.

وليس كل ما يصدر عن السعداوي جدير بالدفاع عنه، فللمرأة آراء خلافية، خصوصاً في انحيازها لأطراف سياسية من دون سواها، أو مديحها لما يمكن تسميته «الطغيان في الحكم»، والمغالاة في ازدراء الخصوم، والتنكيل بهم.

لكنّ ذلك، لا يخفي الدور الذي أدته هذه السيدة طوال أكثر من نصف قرن، حيث أخرجت المرأة العربية من قمقم الاختباء القهري في الكهف الخلفي المهجور للشأن العام، وأدخلتها، عنوة، في سياق السجال الضاري حول حقوقها، وضرورة رفع صوتها، والاحتجاج ضد القوى جميعها التي تفسد الحياة وتفخّخ شروط الاجتماع البشري.

ولو أنّ السعداوي اكتفت، وحسب، في إلقاء حجارة في المياه الساكنة للحياة العربية المأزومة، لكان ذلك مبعث مجد لها، لأنها تحملت عبئاً لم تنهض به نساء يمتلكن مؤهلات السعداوي، لكنهن فضلن الصمت والتواري، والهجس بآرائهن في الغرف المغلقة، والإكتفاء بالهمهمات.

السعداوي صرخت بكل ما في حنجرتها من غضب. وحسبها ذلك فـ «النار أوّلها غضب»!