ما يحدث في الولايات المتحدة الأميركية مقلق جداً على الصعيد الداخلي والانتخابات الرئاسية، كما على مستوى السياسة الخارجية وتأثيرها على العالم. أحد أبرز مصادر الخوف هو عنصر عدم القدرة على التنبؤ unpredictability وسط تخبط وانقسام اجتماعي مرير، وإزاء شخصية كل من المرشحين للرئاسة: الديموقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترامب. الانفلات سيد الساحة وكذلك قصر النظر على الصعيدين الشعبي والرسمي.

التظاهرات في الجامعات الأميركية تمتحن معدن الرئيس جو بايدن، والمحاكمات المتتالية تستفز شخصية الرئيس السابق دونالد ترامب. كلاهما في هشاشة وتأهب لارتكاب الأخطاء. الركاكة داخل كل من الحزبين الديموقراطي والجمهوري، إلى جانب هشاشة المرشحين، إنما تفسح المجال للمزيد من تمزق النسيج الاجتماعي الأميركي والانسياق إلى ما يمكن تسميته حرباً أهلية سياسية غير معلنة في الولايات المتحدة الأميركية. وهذا مرعب بالتأكيد.

مرعب، ليس فقط للأميركيين بل للعالم. ذلك أن خروج الأمور عن السيطرة سيفاقم المخاطر على المستوى الداخلي بالتأكيد. لكن أميركا الخارجة عن السيطرة خطرة على الجميع، الأصدقاء والأعداء في أنحاء العالم كافة.

لنبدأ بتأثير التظاهرات في الجامعات والتي انطلقت من جامعة كولومبيا في نيويورك. صحيح أن عنوانها معارضة دعم السيد بايدن لإسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو الذي يبطش بالمدنيين الفلسطينيين في غزة ويدمر بيوتهم ويهجّرهم قسراً، ولا يُعاقب. بل إنه يُكافأ بمساعدات أميركية عسكرية واقتصادية بمليارات الدولارات رغم استهتاره الفاضح بالرئيس الأميركي وبالإحراج الذي يسبّبه للولايات المتحدة لظهورها وكأنها تبارك إبادة المدنيين بذخائر أميركية.

صحيح أن حرب إسرائيل على غزة هي العنوان الرئيسي لهذه التظاهرات المتخبطة بين السذاجة السياسية للمتظاهرين وتلقائية التهم باللاسامية للذين يعارضون حرب غزة، وكأن لا يهود بين المتظاهرين أو أن على العالم أن يقبل بجرائم ضد الإنسانية لأن عليه أن يخشى ويخاف من تهمة اللاسامية.

عادت إلى الأذهان معادلة: إما أنتم معنا، أو أنتم ضدنا. أي أن الذين قرروا التعاطي مع التظاهرات في الجامعات من زاوية اللاسامية لمجرد أنها تعارض الحرب الإسرائيلية على غزة إنما اتخذوا قراراً يستدعي التشكيك بأسسه الأخلاقية. لا يجوز لهؤلاء أن يتوقعوا من العالم أجمع أن يصمت على تجاوزات إسرائيل الرهيبة ضد المدنيين الفلسطينيين. لا يُسمَح لهم بأن يقنّنوا كل من ينتقد إسرائيل ـ حتى الذين يعارضون ويدينون ما فعلته حركة "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) - في خانة اللاسامية لأنهم يطبقون معادلة: إما أنتم معنا، أو أنتم ضدنا.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الذين أخذوا إلى التظاهر ضد رفض إسرائيل وقف النار من دون ذكر مواقف "حماس" الرافضة بدورها تسهيل وقف النار الذي يطالب به المتظاهرون. فهؤلاء يتناسون تاريخ تعطيل "حماس" سوية مع إسرائيل حل الدولتين. يتجاهلون سياساتها التي زادت من الانقسام الفلسطيني، وكونها حركة مقاومة إسلامية وليست حركة وطنية فلسطينية.

إسرائيل و"حماس" وجهان لعملة واحدة عندما يتعلق الأمر بمواقفهما من حل الدولتين الذي يلاقي الإجماع. إسرائيل خلقت "حماس" كي توقف منظمة التحرير الفلسطينية عن مسيرة حل الدولتين كما تصوّرته اتفاقية أوسلو التي أخذها الفلسطينيون على محمل الجد فيما اعتبرتها إسرائيل وسيلة إلهاء انتقالية وعابرة.

لذلك، عندما يتحدث المسؤولون الغربيون بلغة مطالبة "حماس" بالموافقة على حل الدولتين من دون أن يكون ذلك أيضاً شرطاً جدياً على إسرائيل، فإن في الأمر نفاق ومواربة.

لكن بعودة إلى الوضع الأميركي الداخلي الناتج من التظاهرات في الجامعات، وقبل الخوض فيه، يجب القول إن غزة ذريعة وغطاء لشيء ما يحدث في الداخل الأميركي.

غزة عنوان استرقه اليسار الأميركي المتطرف والتقطه اليمين الأميركي المتطرف. غزة هي ضحية اليمين اليهودي الإسرائيلي المتطرف والإسلام الفلسطيني المتطرف. غزة ضحية واليوم باتت سلعة بين أيدي تيارات التطرف التي تشرب دم الأطفال الأبرياء في لعبة التموضع التكتيكي القصير النظر.

رئيس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غزة، يحيى السنوار، يعرف تماماً أن إسرائيل لن توقف حربها على غزة وستقتحم رفح ما لم يقدّم هو شخصياً لها تنازلات جديّة تقارب الاستسلام. يعرف أن آلاف المدنيين الفلسطينيين سيدفعون أرواحهم فداءً له، رغم أنفهم، إذا بقي متصلّباً في مفاوضاته مع إسرائيل، وحتى الآن ما زال السنوار متصلّباً باسم إنهاء الاحتلال الذي أعادته عمليات 7 تشرين الأول (أكتوبر) الى غزة بقيادته وبقراره الانفرادي.

معركة السنوار وجودية تماماً كما معركة نتنياهو وجودية أيضاً. حرب التطرف وجودية كذلك لكل من اليمين في إسرائيل وللمقاومة الإسلامية في غزة.

ولذلك، إن الذين يبسّطون الأمر ويختزلونه إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، إنما يجهلون أو أنهم يتناسون عمداً أن أجندة "حماس" ليست إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، بل هي أجندة إنقاذ "حماس" من توعّد إسرائيل بسحقها لتبقى تسيطر على غزة وتستكمل مشروعها الإسلامي - مشروع الإخوان المسلمين - وليس مشروع الدولة الفلسطينية. فمن المبكر قراءة رسائل "حماس" الأخيرة على أنها تحوّلت إلى الاعتدال وإلى الشراكة البناءة مع منظمة التحرير الفلسطينية وإلى احترام لمبادئ قيام السلطة الفلسطينية.

هذا كلام لا تأخذه الحركات الطلابية في الاعتبار وهي ترفع أعلام "حماس" وتركّز على الاحتجاج ضد إسرائيل قطعاً. بذلك تترك نفسها مكشوفة لأنها لا تدين "حماس"، لا على ما ارتكبته في 7 تشرين الأول، ولا على ما تستمر به اليوم من احتجاز للرهائن ومفاوضات هدفها إنقاذ نفسها، وهذا في رأي بعض المعارضين للمتظاهرين موقف معاد للسامية. كلا الطرفين يساهم بصورة أو بأخرى في تعميق الانقسام في الداخل الأميركي.

هذا الانقسام بين المعسكرين المتطرفين في الساحة الأميركية - اليمين واليسار - لم يخلق في 7 تشرين الأول بل له تاريخ لا يفهمه الطلاب العرب الذين غامروا بمستقبلهم في جامعاتهم اعتقاداً منهم أنهم يصنعون التاريخ. إنها مسألة أميركية داخلية لها علاقة بالمعسكرين الجمهوري والديموقراطي في الانتخابات الرئاسية. والمعركة تحتد.

وضع الرئيس جو بايدن أصعب لأنه في وضع جديد تبدو فيه التظاهرات الجامعية اليوم ظاهرياً أنها تشبه التظاهرات التي رافقت حرب فيتنام، حتى وإن لم تكن حقاً بالنوعية أو المستوى نفسيهما. المهم في الأمر هو الانطباع بأن هذه تظاهرات تؤثر على النظام السياسي في الولايات المتحدة. والرئيس بايدن قلق.

اليسار داخل الحزب الديموقراطي (ووك) يزداد قوة بسبب التظاهرات الجامعية، وهو يسار راديكالي وَجد في فلسطين ذريعة جيدة للحشد وراءه. إنه يسار لا يبالي إن كان ما يفعله سيساهم في إضعاف بايدن أمام ترامب، فما يريده هو تغيير بايدن نفسه. هذا اليسار هو مشكلة للحزب الديموقراطي لأن أهميته ليست في أنه يُضعِف دونالد ترامب، بل لأنه يشكّل معضلة كبيرة جداً للحزب الديموقراطي.

ليس لدى هذا اليسار برنامج محدد بل هو عائم على بحيرة من القضايا المتناثرة. إنه جيل ديموقراطي جديد لا يعجبه الحزب الديموقراطي ولا يرى في جو بايدن القوة السياسية التي يريدها له.

المشكلة قد تكون في أن يؤدي ضغط اليسار الديموقراطي عليه إلى إسقاط الحواجز التي تعيق فوزه في الانتخابات. والسؤال هو: هل سيفعل ذلك على الساحة الداخلية؟ أم أن من المفيد له استغلال الساحة الخارجية فيقرر، مثلاً، إرسال قوات إلى أوكرانيا، أو تحفيز إسرائيل على تدمير "حماس" بأي ثمن ونسف النظام السياسي الفلسطيني بكامله؟ جو بايدن في حاجة لأن يفوز بالانتخابات. كل شيء مباح من أجل الفوز، بلا استثناء.

طبيعة الحملات الانتخابية الرئاسية لن تبقى على ما هي عليه اليوم وسط تصاعد الانقسام والتنافس بين اليسار واليمين في أميركا. الوضع الراهن اليوم يكاد يشبه الأزمة العقلية وليس الأزمة السياسية بسبب ضبابية الإرشادات والتوجهات guidelines التقليدية، بل زوالها، وبالتالي إن الارتباك والتشويش سيدا الساحة.

عدم وجود إجماع وطني أمر خطير أينما كان، لكنه أكثر خطراً في مرحلة حملة انتخابات ستكون عنيفة ببعدها الشخصي بين رجلين لن يتراجع أحدهما للآخر قيد أنملة. وهذا سيؤدّي إلى المزيد من صعوبة التنبؤ، ومن احتمال ارتكاب أخطاء جديّة.

هذه ليست انتخابات تناقش سياسات المرشحين لأنها في الواقع معركة تنافس بين شخصيتين وتتجاهل أهمية إثبات كل مرشح قدرته الحقيقية على قيادة البلاد. هذا إضافة إلى الانقسام في المجتمع الأميركي، ما يفاقم إمكان ارتكاب الأخطاء الخطيرة.

لكل هذه الأسباب، إن الحملات الانتخابية قد تتحول إلى حرب أهلية سياسية شبه علنية في الولايات المتحدة الأميركية.

ماذا عن دونالد ترامب؟

إنه رجل بطبيعته صعب التنبؤ به أساساً. أما وأنه يقع تحت ضغوط ضخمة بالذات من خلال جلسات محاكمته التي تفرض عليه السكوت، فإنه سيكون أكثر قابلية للانفجار ولارتكاب المزيد من الأخطاء. وهكذا سيبدو أن رئاسته ستكون محفوفة بالمخاطر التي تترتب على شخصية قابلة للاستفزاز، فيما هي أساساً شخصية تعشق الاستفزاز وتتقنه. اليمين المتطرف متأهب لمصلحة ترامب، وهذا يزيد من المخاوف والخطورة.

أخطاء الرئيس بايدن كثيرة لكن أبرزها على الصعيد الخارجي هو أنه اختار أنصاف الخطوات في مواجهة الاستفزازات كتلك الآتية من إسرائيل وتلك من إيران. أما الرئيس ترامب، فإنه يستفِّز ويُستفزّ ولن نعرف حقاً ماذا كان ليفعل لو كان في البيت الأبيض في زمن التظاهرات الجامعية الضائعة.