في بداية كل عام جديد يأتيني صباحا من اقليم كردستان صوت يقول ( انا سمّيك..... أنا سمّيك... ) فأتعرف عليه حالا. ولو كانت المكالمة في الاسبوع الاول من شباط فأنه يضيف: ( في مثل هذا اليوم كنا معاً في قفص واحد امام محكمة الضابط ، النعساني. انه الصديق المناضل عزيز محمد، الامين العام السابق للحزب الشيوعي العراقي، والذي افترقنا اكثر من مرة والتقينا في المسيرة الشيوعية المشتركة. فمحاكمتنا ، التي نالني فيها حكم مؤبد في شباط 1949 ، جرت بعد 3 اشهر من اعتقالي في زنزانة انفرادية بأبي غريب، وفي البرد الشديد لم يكن لي غير غطاء واحد افترشته وأغطيجسمي به. وكانت مواجهات الاهل ممنوعة ، وكذلك الرسائل .... كنت وحدي أستعرض ما حدث وأفكر فأتسلى وأضحك ، ومع ذلك كنت اسلّي نفسي بارتجال اشعار حلمنتيشية ومن ذلك مثلا قولي: أباريق، اباريقْ من الماء على الريق تفيد المرء في الضيق ، فهل تعلم ياقيقْ؟؟؟؟ اما (قيق) كلمة استعملها على سبيل ألفكاهة وانأ معتقد انني اخترعتها. ولكن صديقي وقريبي ،الشاعر الراحل زاهد محمد ، حين اطلع على الأبيات اخذها ضمن قصيدة طويلة وتبيّن ان كلمة (قيق) موجودة في القواميس، ولا اتذكر معناها. من ذلك ايضا قولي: الّا تدرون يا أهل المزيكا بأن بعير قومي صار ديكا وأن حمارنا أمسى غرابا ينادي في الليل (هيك هيكا). وصرت أرى الحياة بلا معانِ من اليابان الى كوستريكا. 

وكانت الوالدة قد اعتقلت في نفس الوكر الحزبي بعدي، ولكن سرعان ما اطلق سراحها. وحيداً بلا كتاب ولا ورق ولا قلم ، وأطبقت الغيوم علينا حين علمنا من بعض الحراس ان قادة الحزب في سجن الكوت نقلوا الى ابي غريب لإعادة محاكمتهم امام المحكمة العسكرية . لم اعد قادراً على التفكير وقّل نومي ، لا سيما بأن فهداً، ورفاقه سوف يتم إعدامهم ... تمنيت لو اعدموني بدلاً عنهم. وذات صباح دوى في الردهات صوت يقول، (اودع رفاقي وانا سائر الى المشنقة) وقال الحارس انه زكي بسيم ... اية ايام صادمة وحزينة كانت تلك الايام.

بعد صدور الاحكام علينا دقّوا السلاسل في ارجل المحكوم عليهم ، وكل سلسلة ذات درجة حسب سنوات الحكم. وكانت من نصيبي سلسلة ثقيلة في الارجل ، كان عليّ ان أكيّف معها حياتي اليومية. ثم نقلونا الى سجن قلعة نقرة السلمان في الصحراء... وهناك تعرفت على عزيز محمد وعلى كوكبة من المناضلين الاوفياء لشعبهم والمضحّين بنكران ذات ، والكثيرون منهم استشهدوا في السجون وفي 8 شباط. لسنا هنا في معرض سرد ذكريات السجون ، حيث ورد الكثير من ذلك في كتب مذكراتي ولم يفتني ان اذكر حتى ذلك الشاب المسيحي العملاق قرياقوس خمّو ، الذي اعتقل وهو لا علاقة له بأي حزب وحركة ، وكان اختياره في نقرة السلمان ان يلتحق بي كلما كنت اسير وحدي وانا حامل سلاسلي . كان طيب القلب، ويريد ان يتعلم ويفهم ... وبالعودة لاعتقالي ، فقد كنت في الوكر الحزبي مع ابنة عمي (سيمان) ،وابنتها(بدرية) ، الصبيّة ، فضلاً عن المناضل سلام الناصري. اعتقلوا جميعا معي ، لم اذكر اسم بدرية في كل مؤلفاتي ، وهذا ما جعلها بعد ان بلغت الكهولة ان تلومني من بغداد هاتفيا ، قبل سنوات قليلة. وكانت تسأل عني من وقت الى اخر. ثم رحلت عن الحياة فتألمت وبكيت، ولابد من ذكر ان المناضلات قد عانن الكثير وكذلك عائلات المناضلين في تلك العهود ، فلا بدرية ولا امها كانت شيوعية ، او في اية حركة سياسية ، ولكنهما جازفتا بالسكن معي ، رغم علمهما بالمخاطر ، وهكذا فعلت المئات من امهات وقريبات ، او غيرهن بالتطوع بالسكن مع مناضلين مطلوبين للأمن العام... وفي مقال لي وصفت هذا النمط من النساء بالبطلات المجهولات.. حين استعرض ذكريات السجن أتوقف وأضحك حين اتذكر انني في يوم من الايام كنت لاعب كرة ايضا في نقرة السلمان، حيث حرّضنا واقنعنا الرفاق ، انا ومن كانوا يعتبرنهم كسالى عاجزين ، بتشكيل فريق كرة منا وحدنا، وكان عميدنا المرحوم زكي خيري ، الذي كان الاكبر سنا. وفي مرة اخرى نظم الدكتور حسين الوردي تمثيلية ، واختارني كأحد افرادها في دور ثانوي. ولحد الان لا اتصور كيف وافقت على ذلك ، ولكن مفارقات الحياة كثيرة. في نقرة السلمان كان عزيز محمد يغني بصوت شجّن ، اغاني الجبال الكردستانية، في حين كان المناضل كاظم فرهود ، الذي لعب دوراً مهما في الحركة الفلاحية قبل الثورة وبعدها، يغني اغاني ريفية رقيقة ، ولا سيما ما يسمى (الابوذية). وهي كلمة اختصار لــــ ( ابو أذية) كما أعتقد لأنها تكون حزينة نابعة من شكاوى الريف المظلوم....

وكانت فترات السجن متفاوتة، قمعاً وارتخاءاً، ومن ذلك السماح بالكتب مراراً ومنع كل كتاب وورقة وقلم مراراً اكثر ولا سيما عشية الثورة. وكانت لنا في البصرة عام 1949 مكتبة جيدة ، كتب أنكبّ عليها فأفرط حتى قال عني زكي خيري ضاحكا، انني أصلي لأكون مأمور مكتبة.. اما حين أتذكر من استشهدوا وكان بينهم أصدقاء أعزاء ، فأن الحزن يجتاحني ، فأتذكرهم ،واحداً واحداً، ابكي ، فقد استشهدوا او رحلوا بعد ان قدموا زهرة الحياة من اجل قضية الشعب بلا مِنّة ولا انتظار مكافأة ، وهذا دون انكار تخبطاتناواخطائنا في السجون وخارجها.

فألف تحية لجميع شهداء الحركة الوطنية العراقية ، ايا كانت ألانتماءات، وتبّا لزمن صعد فيه المدعون والفاسدون ، الذين يعتبرون العلمانية جريمة،ويبخلون على المناضلين الشهداء ومنهم عبد الكريم قاسم حتى بوصف شهيد