لم تعد الطيور وحدها هي التي تطير، فالملايين فعلوها في الخرطوم يوم الجمعة الماضي فمارسوا طيرانا جماعيا لافتا وعجيبا .

القوم طاروا فرحا، ففي هدف جاء في الوقت بدل الضائع، أعلن (باراك أوباما) رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي كتمت أنفاس السودان لعقدين من الزمان !

قامت الدنيا ولم تقعد، وتحولت الساحة السودانية إلى منابر وبرلمانات تناقش الحدث الكبير، وانبرى العشرات من أصحاب التخصص الاقتصادي والسياسي منذ الساعات الأولى ليدلوا بمرئياتهم . ولو استثنينا بعض الأصوات المتوجسة من القرار أو التي ترى أن وراء الأكمة ما وراءها .. يمكن القول بشكل عام إن حالة الفرح كانت الأكثر بروزا والأعلى صوتا في الساحة السودانية .. مناصرين للنظام الحاكم أو معارضين له .

قناعة البعض هي أن المغص الكلوي الناتج عن العقوبات لم يصب إلا الناس العاديين وأن الحكومة وأقطابها ـ المستهدَفين أساسا بالعقوبات ـ بعيدون عن المعاناة الحقيقية في هذا الجانب . لكن الحكومة وأنصارها يرون أن الجميع كانوا سواء في المعاناة، وأن ما جرى من انفراج كان نتاج الإدارة الصبورة للأزمة المزمنة من قبل النظام الحاكم، بما أدى أخيرا لانزياح الغمة وعودة الأمور إلى نصابها .

شخصيا مارست الطيران فرحا مع القوم دون أجندة سياسية، فقد عانيت مثل معظم الناس من الأزمة الاقتصادية الحادة التي اكتسحت البلاد، كما عانيت من تطاير الأسعار كل صباح وماراثون ملاحقة الدولار الذي قطع أنفاس العامة عدا قلة من تجار الأزمات الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف !

والطيران من الفرح، كما هو واضح، حالة معنوية، فلا أعرف شخصا أقلع طائرا بجسده متنقلا من مدينة إلى أخرى، كما لم أسمع بمغامر حاول ارتكاب هذه الحماقة سوى الأندلسي عباس بن فرناس الذي دخل التاريخ رغم محاولته الفاشلة المعروفة، لكن لنقل إن إحساس الطيران يغمر الأجساد بالفعل حين تحس بالفرح .. فيتسلل شعور عجيب بأن الجسم يتمرد على قوانين الجاذبية، ولولا أن الواقع يجافي الخيال لقلنا إن حالة الطيران تكاد تحدث بالفعل !

والناس تستعير لفظة الطيران في أكثر من موقع، فتراهم يقولون إن الفلوس قد طارت، وان النوم قد طار .. بل يزعم العشاق أن قلوبهم ـ هكذا ـ قد طارت، ويعزون الأمر لكيمياء الحب التي لا تعرفها المختبرات الطبية أو تسمع بها مراكزالعلم والمعرفة التطبيقية !!

ومع ذلك نستطيع القول بثقة إن الناس تجاوزوا معضلة الطيران الجسدي، فتكوينهم الحالي لا يوفر الأجنحة والريش والانسيابية التي تمكنهم من التحليق الذاتي، لكنهم استطاعوا الطيران بوسائل ناقلة كالبالونات والصواريخ والطائرات، ليتحقق الطيران بشكل باهر، ولتحقق البشرية بفعل هذا الإنجاز الكثير من النقلات الجبارة في مجالات النقل والحضارة والرفاهية والبناء وحتى التدمير !

ولعلها سانحة للتوقف برهة عند أحدث الأخبار التي طالعتنا مؤخرا، وهي بدء مجموعة (إير بص) اختباراتها لسيارة طائرة ستكون جاهزة بنهاية هذا العام .

يا له من إنجاز كبير !

تصوروا أن الاختناقات المرورية الكبرى في مدننا، والتي لم تسعفها الأنفاق والجسور الطائرة والطرق الدائرية وعمليات التخريب المستمرة في القشرة السطحية للأرض .. كلها ستصبح جزءا من الماضي، وأن السيارة الطائرة ستفرض وجودها، لنصبح أمام واقع جديد سيغير كليا ملامح ما نعيشه الآن من أسلوب اعتدناه للحياة .

مالنا وكل هذا ؟! .. فما أردنا قوله هو أن الخرطوم تطير فرحا هذه الأيام، وأن رفع العقوبات الأمريكية عن كاهل المواطن البسيط أعاد بعض الأمل في واقع جديد أقل قسوة .. ومستقبل منظور مسكون بالبشارات .

هذا ما أراد صويحبكم أن يبثكم إياه . أما ما شطح به قلمه من استطرادات، فنصيحتي أن تنحّوه جانبا، لأنه من آثار التقدم في السن ..

كان الله في عوني وعونكم !