ها قد حلّ زمن التيه، وتحققت نبوءة الأغبياء. في التيه، لا تُعرف الأشياء على حقيقتها، فلا الحب حبٌ، ولا الحرب حربٌ، ولا الطرقات تسير حيث نريد. هنا، تتعالى الأصوات رغم صمت الجميع. وهناك، يخيم الصمت رغم الضجيج. تعلو شعارات النصر رغم الهزيمة، فريقٌ يبكي وفريق من فرط فرحه يموت.

زمن التيه أقسى مراتب أزمنة الطحن البشري، وأقسى ما فيه، أنك لا تعرف من أنت، وأين أنت، وما الذي يجري حواليك، ورغم السحر الباقي بذاكرتك لليوم ينشد ( كل شيء حواليا.. بيفكرني بيك )، إلّا أنك لا تجد من كنت تناغيه وكان يناغيك، رغم أنه لم يرحل، وأنت للآن ما غادرت حدود الوطن.

الشيبة والمتعبون والأمهات الثكالى فقط من يحزن في زمن التيه، يلحقهم الخاسرون والمهزومون من نقاوة أرواحهم. أما الكهنة وتجار الحروب والبشر من أشباه القرود، فهم في سكرتهم فرحون، ووسط الفريقين، يا ويلتاه، جموع التائهين بلا بوصلة ولا دليل.

أيها الرب، حين خلقتني من ماء وطين، كنت تعرف أني سأعيش وسط النار، النار التي ستُغلي نصفي وتُيبّس نصفي الآخر، ولن أطيل في عتابي، فأنا من أشعل هذه النار، أنا الإنسان التائه أسفل الأرض، الأرض التي خلقتها من ماء وطين.

لا حلول لزمن التيه إلّا بالقرابين، قرابين تفك أحجية هذه القيامات المتتالية، وليصنع النجارون مزيداً من التوابيت، حتى تُقتلع آخر شجرة من غابة الوطن، حينها فقط، ستنتهي سطوة الموت، فلم تبق في الوطن صدور تستقبل الرصاص، ولا رقاب تعانق المشانق، ولا نساء غير السبايا والمغتصبات وكم حبيسة في الدار. فقط سيبقى طفلٌ أو طفلين في وطني، واحدٌ اختبأ تحت عباءة أمّه، وآخر تقرفص خلف أبيه، واضعاً كفيه على أذنيه، يخاف صوت الرصاص والصارخين قبل الموت.

يا زمن التيه، بدأت أستحي من سنين عمري، وأخجل لأني مازلت على قيد الحسرات. فات ميعاد موتي ولم يأتني الموت.


[email protected]