قيل لبعضهم من أين يُعلن الخراب عن حضوره، أجابوا من رداءة البئية والنفوس، وبشرياً من غياب الولاء لدى المهيئين للمساومة من جهة وتساهل الطيبين مع الخبثاء من جهةٍ أخرى؛ وهذا يعني بأن الشرخ الذي حصل في اللحظة المصيرية لم يكن وليد أوانه، إنما لعل حاضنة الخراب كانت مهيئة لإحداث هذا الصدع طالما لم يكن ثمة إجماع لدى أهل البيت على الولاء والمقدس.

ولكي يتقصى الناظر أسباب أسقام الملةِ فمن البديهي أن يُمعن النظر بأحوال جيرانه، يُعاين تجارب من كانوا بحكمهم سواءً أكانوا على مرمى حجرٍ منه أو بعيدين عنه بكيلومترات أو أميال، وذلك حتى يلاحظ عبر مرآة معاشهم بعض ما غاب عنه من علل الذات، وإلاَّ فإن الذي لا ينهل لا من تجارب الآخرين ولا يتعظ من انتكاسات الذات فهو حينها يكون ممن يقيم في الجهة الخاطئة من الوعي بكينونته.

والذي دفعني للمقارنة بين أنانا الجمعية وأنوات الآخرين هو ما جرى في كركوك في 16 من شهر تشرين الأول، وكذلك ما لاحظته في ذكرى يوم تأسيس الجمهوية التركية يوم الأحد، إذ في الوقت الذي كان يعقد فيه برلمان كردستان جلسته المغلقة واتخاذ قرارات تخص موقع رئيس الإقليم وتوزيع صلاحياته بعد رفضه تمديد فترة ولايته، وفي خضم متابعة المجريات عن بُعد في بهوٍ بمنطقةٍ قريبة من ميدان بكر كوي في مدينة اسطنبول التركية، صادف أثناء خروجنا من البهوِ أن سمعنا أصوات الموسيقا تصدح عالياًوتملأ المكان، فكانت ثمة حفلة موسيقية صاخبة في ميدان بكر كوي، حيث تحتفل تركيا بالذكرى الـ 94 لإعلان الجمهورية على يد مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك في 29 تشرين الأول 1923، وقد أقيمت بهذه المناسبة فعاليات مختلفة في كافة أنحاء تركيا.

فمضينا صوب الميدان لا من أجل الفُرجة أو المشاركة بالحفل، إنما للعبور من الساحة إلى الطرف الآخر من الميدان، ولكن قبل أن تطأ أقدامنا الساحة بحوالي خمسين مترا بدأت الفرقة الموسيقية بعزف النشيد الوطني التركي،فرفرف العلم في الساحة عالياً مع بدء العزف، وما جعلني مشدوهاً أمام المشهد هو أنه ولمجرد أن بدأ البيرق يرتفع والنشيد الوطني يُعزف حتى تسمَّر في مكانه كل من كان واقعاً تحت أنظاري، وانتصب كالسارية كل من كان موجوداً في الأزقة المؤدية إلى الساحة، التزموا الصمت والسكون جميعاً إلى أن انتهى عزف النشيد حتى عادت الحركة إلى أطراف الذاهبين والآيبين، عندها التفتُّ لمن كان معي وقلتُ إن من يحترم علمه ونشيده إلى حدود التقديس،يحق له أن يكون صاحب دولة حتى ولو لم يكن من أهل هذه الجغرافية من غابر الأزمان.

وبعيداً عن ملابسات الخيانة الكبرى في كركوك والتي تحدث عنها رئيس الإقليم مساء الأحد في سياق كلمته، فإن ما رأيته ولمسته في يوم تأسيس الجمهورية التركية في ذلك الميدان كنا قد رأينا من خلال وسائل الإعلام ما هو عكسه تماماً في كردستان العراق، إذ لا يخفى على أحد أن الكثير ممن يتبوؤن المواقع السياسية في الإقليم كانوا دون مستوى المواطن التركي العابر فيما يتعلق باحترام العلم والنشيد التركي وتقديره للرموز، إذ يعرف الكثير في إقليم كردستان وخارجه أن ثمة قادة كتل سياسية بأكملها في برلمان كردستان لا يحترمون، لا علم كردستان، ولا نشيده،ولا حتى الرمز مصطفى البارزاني، ومع ذلك لهؤلاء حشدٌيسير خلفهم في الإقليم!!!

ومع أن تركيا أكثر تطورا من الإقليم في الكثير من النواحي، كما وأنها أكثر ديمقراطية من الإقليم، ولكن مع ذلك أكاد أجزم بأنه لو كان في البرلمان التركي من لا يحترم العلم والنشيد الوطني ورمزهم الأكبر مصطفى كمال أتاتورك لجاء مَن يرمي بأولئك البرلمانيين إلى الخارج من دون ندم، إلا أن في إقليم كردستان فمن لا يحترم العلم،ولا النشيد، هم ما يزالون من الكتل التي تعطل عمل البرلمان كله، ومع ذلك ليس في الإقليم وإلى الآن من يتطوع لينظف البرلمان منهم!!!.

وحيال ذلك فيا ترى إذا ما كانت ثمة شريحة ما من الشعب أو بعض قادة أحزابه لا يحترمون مقدساتهم كحال زعيم إحدى الجماعات السياسية فيه، وفوقها يأتي ممثل لحركةٍ ما في ذلك المجتمع وبكل صفاقة وأمام الملأ يستخف ويهين مَن يحمون عرضه وشرفه في الجبهات بدلاً من شكرهم، فهل من اليسير لذلك الشعب الذي لم يصل قادة الرأي فيه إلى حالة المواطن التركي البسيط في احترام هلرموزه وتبجيل مقدساته أن يحقق مراده في بناء وطن؟ وكيف لذلك الشعب بناء دولته وبعض قادة أحزابه هم دون مستوى ما يمتلكه من الحس القومي فرد من الدهماء في دولةٍ مجاورة؟ ناهيك عن وجود ذلك الشعب وسط مجموعة أنظمةٍ ليست إلا كواسج وقروش بالنسبة للكردي، وطبعاً في ظل الغياب التام لأي مساند اقليمي أو دولي حقيقي وليس دعم تصريحاتي كما هو حال الدول الغربية التي تدّعي رعاية الديمقراطية وحقوق الإنسان فقط في وسائل الإعلام.

وفي الختام ليس لنا إلا أن نعيد قول الشاعر بشار بن برد "متى يبلغُ البنيانُ يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرُك يهدم" فكيف إذن سيبلغ البارزاني وأقرانه شطوط السيادة والإباء في ظل وجود عشرات الانتهازيين والمهيئين للمساومة ممن لهم نفوذ لا بأس به في الإقليم، ممن لديهم الاستعداد الدائم لهدم ما يبنيه الغير في أية لحظة، ووسط وجود أناسٍ لا يشغلهم موضوع الكبرياء بشيء بما أنهم كرمى المنافع الشخصية انطربوا لنغمة التبعية واستساغوا مواويل الخنوع إلى أمدٍ غير منظور، وكيف يبني الكرد وطناً طالما أن ثمة أقطاب في ذلك المجتمع يعاني واحدهم من قصورٍ في الوعي القومي والوطني وهو في ذلك لا يزال دون منزلة شخصٍ عاديٍّ من العوام في باقي دول العالم؟.