أعادت مسرحية تعرض راهنا في باريس، إلى الأذهان، ذكرى المعارك الضارية التي دارت بين فولتير وروسو اللذين كانا علمين من أعلام الفلسفة الفرنسية في القرن الثامن عشر. وكانا نجمين ساطعين لا في فرنسا وحدها، بل في جميع أنحاء القارة العجوز. وبأفكارهما وأطروحاتها حول مختلف القضايا السياسية والفكرية والإجتماعية والدينية،غذيا الفكر التحرري والديمقراطي الذي أشعل نبران الثورة الفرنسية. وكل واحد منهما قاوم التزمت الديني، وسلطة الكنيسة، وكل مظاهر الإستبداد والتسلط. والإثنان يرقدان الآن في مقبرة"البانتيون" المخصصة لعظاء فرنسا.
وكان فولتير المولود عام1694 ينتمي إلى عائلة مترفهة. وعندما بلغ سنّ الخامسة والعشرين، إختار لنفسه إسم فولتير. وقبل ذلك كان يدعى فرانسوا ماري أورييه. وخلال سنوات الدراسة الجامعية، إختلط بالأوساط المثقفة من أبناء الإرستقراطية. وعندما بلغ سن التاسعة عشرة، ترك دراسة الحقوق ليصبح كاتبا للسفارة.إلاّ أن مواقفه السياسية التحررية قادته إلى سجن الباستيل" الرهيب. وكان آنذاك في الثالثة والعشرين من عمره. وعقب النجارح الباهر الذي حققته مسرحيّته "أوديبّ،زجّ به ثانية في السجن المذكور. وبعد خروجه منه، اختار أن يعيش حياة المنفى في لندن. وكان ذلك عام 1726.وهناك تعرّف على فلسفة لوك وعلى تجارب نيوتن الفيزيائية. وفي عمله"الرسائل الفلسفية" الصادر عام 1734،عرّف بأفكاره الجديدة في مختلف المجالات،طارحا آراءه بشجاعة وجرأة خصوصا في كل ما يتصل بالدين. وقد حقق له هذا الكتاب المزبد من الشهرة بين المتطلعين إلى عالم أفضل، خال من الإستبداد السياسي، ومن التزمت الديني. وفي عام 1762، تدخل فولتير لفائدة مواطن يدعى جان كالاس كان قد اتهم خطأ بقتل إبنه،وكتب نصّا سمّاه"التسامح"،فيه هاجم الكنيسة بحدة.وحتى وفاته عام 1778أي قبل سنة واحدة من اندلاع الثورة الفرنسية، ظل فولتير رمزا كبيرا للمدافعين عن الحرية، الرافضين للرجعية والإستبداد.
وأما جان جاك روسو فقد ولد في مدينة جينيف عام 1712.وعقب مرور أيام قليلة على مولده، توفيت والدته فاهتم خاله بتربيته.وكان هذا الخال قسّا بروستانتينيا.وقد بدأ جان جاك روسو حياته عاملا لدى كاتب محكمة،ثم لدى حفّار. وعند بلوغه سن السادسة عشرة، ترك جينيف ليقيم عند سيدة تدعى "فارتانس". وقد اهتمت هذه السيدة بتربيته أدبيّا وجنسيّا. وعند بلوغه سن الثلاثين، إنتقل إلى باريس.وهناك التحق بحلقة"الموسوعيين"،وتعرف على ديدرو،وعلى فولتير، وعلى آخرين. وبعد أن أصدر كتابيه"إميل"، و"العقد الإجتماعي"، وكان ذلك عام 1762، أحرز روسو على شهرة واسعة،إلاّ أن القوى الرجعية والمحافظة هاجمته بقوة وعنف.وشاعرا بالمخاطر المحدقة به، فرّ إلى لندن حيث شنّ معركة حامية ضد الفيلسوف هيوم الذي كان قد ساعده على الإقامة في العاصمة البريطانية متهما إياه ب"الجوسسة". وعلى مدى سنوات طويلة، ظل روسو يعاني من انهيارات عصبيّة متتالية. إلاّ أن ذلك لم يمنعه من تأليف كتابين مهمين هما "الإعترافات"، و"ّهواجس المتنزه المنفرد بنفسه".وفي الثاني من شهر يوليو-تموز 178، توفي جان جاك روسو.حدث ذلك بعد مرور شهرين فقط على وفاة فولتير.
وفي البداية كان روسو معجبا بفولتير، ومفتونا بأفكاره.وقبل أن يلتقي به، كان يلتهم كل ما يصدر من كتب.وفي" ّالإعترافارت" هو يقرّ بأن "الرسائل الفلسفية" كان كتابه المفضل حتى أنه لم يكن يمل من قراءته أبدا. وعندما شاهد مسرحيّة" الزير" التي عرضت في مدينة غرونوبل، أحسّ روسو الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين من عمره بالإختناق من شدة التأثر. وكاد يغمى عليه بسبب ذلك. وفي عام 1748ـ كتب رسالة إلى فولتير راجيا لقاءه.وهو لقاء كان يتطلع إليه منذ بلوغه سن الخامسة عشرة. إلاّ أن فولتير الذي كان يتمتع بشهرة واسعة لا في فرنسا وحدها،وإنما أيضا في بريطانيا،وفي هولندا،وفي ألمانيا، لم يستجب لدعوته.لذلك سارع روسو بالإلتحاق بحلقة"الموسوعيين".عندئذ بدأ نجمه يلمع،وبات يتمتع بمكانة رفيعة في الأوساط الفكرية خصوصا بعد أن أصدر كتابه:"العقد الإجتماعي". لكن فولتير لم يبد أيّ إعجاب بهذا الكتاب معتبرا إيّاه "نكوصا إلى الوراء"،ودعوة إلى رفض التقدم الذي كان يدافع عنه بحزم وقوة. وفي رسالة بعث بها إلى روسو بتاريخ 30 أغسطس-آب 1755، كتب فولتير يقول بإن من يقرأ "العقد الإجتماعي" تأخذه "الرغبة في الزحف على أربع". وراغبا في المزيد من إغاضته، أضاف فولتير قائلا:» أحبّ الترف والبذخ،وحتى الميوعة والرخاوة. وأحب كلّ الملذّات والفنون بجميع أنواعها ". وقد أشعلت تلك الرسالة اللاذعة نيران المعركة الحامية بين الفيلسوفين الكبيرين. وبعد مرور خمسة أعوام على رسالة فولتير، وتحديدا في 17 يونيو-حزيران 1760، كتب روسو رسالة إلى صاحب"الرسائل الفلسفية" إفتتحها بالجملة التالية:»أنا لا أحبك يا سيدي!» وختمها ب"وداعا سيدي!».وردّا على تلك الرسالة المفعمة بالخيبة والمرارة، قال فولتير : »أنا لا أحب لا روسو ولا مؤلفاته". وعندما أصدر روسو مؤلفه : »هوليوز الجديدة"، هاجمه فولتير بحده،ونعته ب"البورجوازي"،وب"الغبي". وأما عن "العقد الإجتماعي" فقد قال عنه بإنه " لا يليق إلاّ بفيلسوف صغير يتردّد على البيوت الصغيرة".