واليوم وبعد استنساخ حكومة بغداد لكل أساليب وسلوكيات الحكومات العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية في مطلع القرن الماضي وحتى إعلان الحرب على الإقليم واجتياح كركوك وبقية المناطق المستقطعة أساسا من كوردستان بسياسة التعريب والتغيير الديموغرافي خلال أكثر من نصف قرن، وخرق أهم مواد الدستور التي تحرم استخدام القوات المسلحة في النزاعات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم أو المحافظات، وفرض الحصار الكلي على شعب الإقليم من خلال الاستعانة بالدول الأجنبية ( إيران وتركيا وغيرهما ) لغلق الحدود ومنع دخول المواد الغذائية أو التجارية ومنع شركات الطيران من الهبوط في مطارات الإقليم، وإيقاف حركة السياحة من العراق إلى الإقليم، إضافة إلى إيقاف تعامل البنك المركزي العراقي مع المصارف الكوردستانية أو العاملة في الإقليم، كل ذلك يأت في سياق حرب إبادة جماعية واضحة جدا لإلغاء الإقليم وتحطيم إرادة شعب من ستة ملايين نسمة، منح من اجل حريته مئات الآلاف من الشهداء، وحقق خلال اقل من ربع قرن من السلام وعشرات المليارات من الأموال ما عجزت عن تحقيقه كل الحكومات العراقية خلال قرن من الزمان ومئات المليارات من الأموال.

تحديات الإقليم بعد الاستفتاء

إن مجمل هذه الأوضاع والتداعيات الإقليمية والدولية اليوم تضع الإقليم بين خيارين صعبين في الظروف الحالية وهما؛ 

الأول: القبول بدولة المواطنة في العراق وهذا يبدو صعبا للغاية إن لم يكن مستحيلا بعد مئة عام من حكم مختلف التيارات السياسية، وتحت هيمنة الأحزاب الدينية والمذهبية أو القومية، والثاني: خيار إنشاء الدولة الكوردستانية الذي يخضع هو الآخر إلى عاملين أساسيين أولهما اقتصادي سياسي وثانيهما دولي وإقليمي تحديدا دول الجوار ذات العلاقة وهي تركيا وإيران وسوريا.

العامل الأول: 

في الجانب الإنمائي والاقتصادي، لم تنجح حكومات الإقليم منذ 2003 في إنشاء بنية تحتية تخدم مصالح الأمن القومي للدولة القادمة فيما يتعلق بالأمن الغذائي حد الاكتفاء ( زراعة وصناعة وطاقة )، وانشغلت في بناء مجمعات سكنية وتجارية خدماتية غير مكتملة خاصة فيما يتعلق بالكهرباء والطرق والمواصلات والصحة والتعليم، وهذا ما شهدنا نتائجه في الآونة الأخيرة، كما لم تنجح بتطوير إمكانيات البترول وخاصة البتر وكيميائيات والصناعات الغذائية والإنشائية والأدوية قياسا مع تعاظم مواردها منذ 2003م، وفي الجانب السياسي ورغم ما حققه الإقليم من انجاز حكومات ائتلافية، إلا انه بقى أسير النزاعات والتنافسات الحزبية، ولم ينجح في بناء جدار سياسي اجتماعي عسكري متين يحمي مصالح الإقليم العليا، حيث تصدع ذلك الجدار في أول تحدي له كما حصل في تسليم كركوك.

العامل الثاني: 

رغم النجاحات الملموسة المتحققة في العلاقات مع تركيا بدرجة كبيرة وإيران بدرجة اقل وسوريا بدرجة شبه معدومة، إلا أنها كشفت بعد إجراء الاستفتاء نواقص كثيرة، ونقاط خلل عديدة في خصوصية العلاقات ومدياتها مع الحكومات، دونما العمل على بناء علاقات أخرى مع مكونات سياسية فاعلة ومؤثرة وضاغطة في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لتلك الدول.

وفي الجانب الاقتصادي والاستثماري سواء مع تركيا أو إيران لم تصل تلك العلاقات والمشاريع والمصالح بين الإقليم وكل من تركيا وإيران إلى درجة أن تخشى حكومتيهما على تلك المصالح أو المشاريع، لكون معظمها لم تكن مشاريعا إستراتيجية تؤثر أو تضغط سياسيا، حيث نافسا الحكومة العراقية في معاداتهما للإقليم ومشروعه في الاستفتاء، وعلى هذا القياس ممكن مراجعة ذات العلاقات مع أكثر الحلفاء قربا وهم الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي وكندا واستراليا، والمجموعة العربية والإسلامية.

سبب أم أسباب؟

ولكي لا نحصر أسباب ما جرى من تداعيات في جانب واحد أو مجموعة واحدة، فان العديد من المؤسسات ساهمت كل حسب موقعها ومجال عملها بما حدث، وإنها تتحمل المسؤولية أيضا ابتداءً من ممثليات الإقليم الحكومية والحزبية في الخارج، وانتهاءً بالإعلام الكوردي الذي لم ينجح تماما في إيصال القضية الكوردية بشكل مقنع على الأقل لدول الجوار، بينما نجح قرار السياسيين في الاستفتاء بتعريف العالم برمته بقضية الاستقلال، ولذلك نرى هذا الإصرار العجيب على إلغاء نتائج الاستفتاء، التي لا يمكن لأي سلطة داخلية أو خارجية إلغائه إلا باستفتاء آخر يلغي أو يثبت نتائج الأول، وعليه ستبقى نتائجه وثيقة رسمية وتاريخية يعتمد عليها في أي محاولة أخرى للاستقلال في المستقبل.

لقد ذهب الاسكتلنديون إلى الاستفتاء وكذلك شعب كاتالونيا وربما شعوب أخرى في أوربا أو غيرها، والفرق بيننا وبينهم، إن شركائنا في الدولة جيشوا الجيوش وصنعوا مئات الخونة وحرقوا مئات البيوت وقتلوا المئات من المعارضين، ويلاحقون اليوم كل الذين شاركوا بالاستفتاء في كركوك والمناطق التي اجتاحوها، ففصلوا المئات منهم وسجنوا اعدادا كثيرة من منتسبي وزارة الداخلية، وفي البرلمان الديمقراطي طردوا ومنعوا كل من شارك في الاستفتاء من البرلمانيين الكوردستانيين، بينما ذهب رئيس وزراء بريطانيا ونخبته الحاكمة إلى الاسكتلنديين راجين منهم إعادة النظر في استفتائهم مقابل الموافقة على مطالبهم بل وإغرائهم بامتيازات أخرى للبقاء في المملكة العتيدة.

إرادتان متضادتان

إن ما حدث بعد إجراء الاستفتاء في كوردستان من ردود أفعال وحملات عسكرية وتهديدات من العراق أو دول الجوار، أيقظ شعورا كاد أن يضعف أو يخف، وهو إن لا خيار للعيش المشترك في كيان واحد مع هذا الكم الهائل من الحقد والكراهية، فبعد أن كان الاستقلال مجرد حلم لنائم، أصبح اليوم تحدي كبير لدى شعب حيوي ويقظ أيقن إن شركائه في الأرض بمختلف تياراتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية لا يقبلونه إلا تابعا، ولا يقبل هو إلا أن يكون حرا أبيا.

 

[email protected]