شَكلت خطوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عبر إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل نقطة مفصلية تاريخية طوى من خلالها صفحة عقود من السياسة الأميركية ليبدأ بمقاربةٍ جديدة حيال النزاع "العربي الاسرائيلي " على حد وصفه.
ويكون ترامب بذلك اتخذ قرارا أرجا اتخاذه كل الرؤساء الاميركيين منذ العام 1995 وينص على أن تقوم الولايات المتحدة بنقل سفارتها إلى القدس؛ وهذا القانون كان قد طُرح في وقتها من قبل السيناتور الجمهوري آنذاك بوب دول الذي كان يتحضر لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية ضد الرئيس الأميركي وقتها بيل كلينتون، ولكن ايضًا حظي بدعم معظم الديمقراطيين البارزين مثل جون كيري وزير الخارجية السابق و جو بايدن وغيرهم، كما صوت 174 من الديموقراطيين لصالح القرار من اصل 204 الكونغرس الاميركي.

ومن ذلك الوقت عمد رؤساء الولايات المتحدة على توقيع الاستثناء كل ستة أشهر لمنع تنفيذ الخطوة بالرغم من الضغوطات التي يمارسها الحزبين على حد سواء، والتي تطالب الرؤساء بتنفيذ القرارات المتخذة في الكونغرس، ففي يونيو حزيران الماضي صوت مجلس الشيوخ بغالبية 90 صوتًا لصالح قرار يؤكد مجددا على القانون ويدعو الرئيس ترامب إلى ضرورة "الالتزام بأحكامه" وقد جاء ذلك اثر توقيع ترامب استثناءه الأول في الاول من يونيوالماضي.
وقد ظهر ذلك ايضا في ردود الفعل عقب الاعلان مباشرة حيث ايدت قيادات الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الكونغرس قرار ترامب، فيما لم يعارضه سوى بعض المشرعين من الديموقراطيين الذين يتخوفون من المضاعفات السلبية لقرار اعتبروه احادي الجانب.

إذن، فإن القرار منذ عام 1995 علمت به جميع دول العالم آنذاك ؛ وان كان عمر القرار أكثر من عشرون عامًا فلمَ تفاجئ به من يَعلمون سلفًا تداعياته منذ صدوره؟ ولماذا يوحى إلى الشعوب بأن الأمر مباغتًا ويتطلب التحرك "الآن"؟ 
ترى ماذا فعلت السياسات الخارجية "الممانعة" للقرار خلال الفترة الماضية كلها؟ أليس 22 عامًا كافية لتحرك ديبلوماسي هادئ وفعلي وواعي؟ ألم يجد وزراء خارجية الدول كلها (العربية والاسلامية وغيرها ) وسائل ضغط فعلية كتوقيف بعض العقود التجارية؟
أليس نصف قرن كافٍ لتكوين لوبي عالمي يكون داعما حقيقيا للقضايا العادلة وإعادة الحقوق لأصحابها واحقاق السلام العادل؟ أليست عقدين من الزمن كافيين لتكوين مجموعات ضاغطة داخل الكونغرس الأميركي تناهض القرارات "المتطرفة" وتطالب بإعادة مناقشتها؟

لَقد سئمنا التكاذب والتهافت على إشعال الشعارات، فلا توجد قضية عبرالتاريخ تمّ الاتجار بها كقضية فلسطسن ولا سيما القدس، وفي وَقت تَغير فيه وتعاقب خلاله العديد من الرؤساء في الولايات المتحدة فإن جلّ وجوه من تعاطى مع وأدار ملفات الاتفاقات الحاصلة من الجانب العربي لم يتغير!
ترى ما جدوى إدانات شكلية واستنكارات عبر ظواهر صوتية متوقعة إن لم يكن يواكبها عمل ديبلوماسي فعلي حكيم على أرض الواقع؟!
ما جدوى البيانات العقيمة المعدة سلفًا إن لم يرافقها حلولا عملية قادرة على إحداث فرق حقيقي في الرأي العالمي لصالح سلام عادل، بعيدًا عن تجيير القدس لصالح ديانة على أخرى!
فَلم لم يتمكن كل محبي السلام في العالم في إيجاد صيغة تكون فيه "مدينة السماء" بعيدة عن كل تجاذب عسكري وسياسي وديني وقومي وعرقي؟
لِماذا لم يجد "المجتمع الدولي" صيغة عادلة تحمي القدس واخراجها تماما من الدائرة الاسرائلية والفلسطينية على حدٍ سواء!
لماذا هذا الغموض والمراوغة والمماطلة التي لا معنى لها منذ عام 1967 والتي كرستها اتفاقيات 1993 التي تنص على التفاوض بشأن وضع المدينة في آخر المراحل من مسار السلام بين الطرفين! أي مسار وأي مصير؟!
نعم لقد أثار قرار ترمب "غضبًا فلسطينيا" متوقعًا فيما التحركات الدبلوماسية الرسمية العربية تبدو " شكلية وروتينية " غير فاعلة، فواشنطن مرتاحة تماماً" للتنديد المنضبط"، الذي صدر عن الدول وهي تراهن على أن الموقف الذي اتخذته الحكومات سيسهل عليها المساعدة في "احتواء" ردة الفعل تلك!
الشعب الأميركي لا يكترث ربما بالأبعاد الدينية للموضوع كما أن الإدارة الاميركية لا يهمها سوى مصالحها الاقتصادية والعسكرية ومآلات نفوذها في المنطقة، كما ان الخطورة لا تكمن في مجرد نقل مبنى سفارة دولة ما من مكان لآخر. 

نعم الخطورة الحقيقية تكمن في "أدلجة الخطوة " والباسها اللبوس الديني في "تكريس عقائدي" واضح، فترامب الذي صرّح بأن القدس "يهودية" تعرض لانتقادات قوية من مسؤولين اميركيين سابقين خدموا في منطقة الشرق الاوسط و اعربوا فيها عن خشيتهم من ان يؤدي قرار ترامب الى تعزيز نفوذ ايران والتيارات المتشددة.

نعم ان قرار كهذا سيكرس "التطرف " عند كل الأطراف فإعلان "يهودية" مكان سيقابله مواقف " اسلامية " "مسيحية " "عربية" " فارسية "، وسيتعزز نفوذ التشدد، و في وقت ترى بعض الاحزاب الدينية اليهودية وممثليها السياسيين في البرلمان ان في ذلك تحقيق "النبوءات التوراتية" فإن من الطرف المقابل أيضًا " نبوءات قرآنية " تضع المسلمين في المواجهة!
ان اضفاء "المشروعية الدينية" على القدس سيجرها الى مربع "الحرب الدينية " وستتحول الحرب الى حرب ضروس على "مقدسات " كل يدعي لنفسه الأحقية في السيطرة عليها! تلك الأرض التي مرّ عليها أقوام كثر منذ آلاف الأعوام لا يمكن ان يتحمل أتباع "دين" بعينه تبعاتها.
فلم يكن هناك "مسلمون" او " مسيحيون " عندما دمر نبوخذ نصر الكلداني " هيكل سليمان" قبل الميلاد، وليس "المسيحيون" او " المسلمون " من دمروه في المرة الثانية زمن الحاكم الروماني "تيتوس "، وليس "المشرقيون " من اضطهد اليهود في ألمانيا النازية! فلماذا على امم الأرض وأديان العالم دفع فاتورة بناء ذاك "هيكل"؟ وهل احلال السلام يكون باضطهاد ونزع الحقوق عن الشعوب الأخرى؟!
وان كان هناك من يؤمن ان "معركة هرمجدون " التي تشير الى نهاية العالم واقعة لا محالة فلماذا يُسرّعون فيها ويعملون على إذكاء وقودها؟!
ولماذا على الشعوب بانتماءاتها المتعددة واطيافها الدينية وغير الدينية المتنوعة ان تدفع ثمن تاريخ عمره الاف السنوات وان تزج في اتون حرب دينية تنتهي بالدمار الشامل؟ وما فائدة المعابد ان كانت ستبنى بأجساد الأطفال الأبرياء؟
وكيف يُقبَل او يُعقل ان تحرك "الأساطير"مستقبل الأمم وتحدد "النبوءات" ديبلوماسية الدول؟
أليس من الأجدى ان تكون القدس عاصمة عالمية للسلام خارج وصاية كل الأديان وخارج ادارة دولة بعينها!