لا اخفي عليكم أعزائي القرّاء انني كرهت الثراء والأثرياء ومججت الغنى والأغنياء والأكثر مقتا وكراهية عندي هؤلاء الذين اطلقوا على انفسهم اشتراكيين ممن أسميناهم رجال سياسيي الكافيار نسبةً الى بيوض الكافيار ووجباتها التي أعدّت لمتّقي طبقة الارستقراطية فجمعوا وكنزوا الاموال وامتلكوا الضياع وحُسبوا من عداد تلك الطبقة الباذخة دون ان يكونوا من منبتهم او رعيلهم ، هؤلاء اشتراكيو الكافيار أثرَوا في سوق السياسة المائل الموازين واتخذوا من الفكر الاشتراكي ركبا سهلا للوصول الى أفحش الغنى .

لست مصاباً بعمى الألوان فلديّ من البصر والبصيرة ما أحسد نفسي عليهما مع اني مثقل بدزينة من الامراض العضوية التي تنخر جسدي ولكن لم يعد بريق " الأصفر الرنان " يسحر عينيّ طالما تبدّت صفرته التي توحي بهزاله وسقامه وغيرته من كارهيه وانا واحد منهم ولم تطرب أذني لرنينه مهما علا صوته ، ومن منّا يحب الغرور والعجرفة والأنف اليابس والجبين المقطّب في الوجوه الصفر ويستسيغ صراخ الرنّات الناشزة الموجعة للاسماع .

فلتبعدوا عني الذهب وصانعيه وحائزيه ومهووسيه وبورصاته وكل مايتعلق بأوزانه وقيراطه وموازينه سواء غشّ ام عدلَ ولست ممن يقول : " انت ياميزان الذهب تغشّ واحبك " كما تتغنى به أحدى اغانينا العراقية وليتكم تمسحون من ذاكرتي هذا النص الشعري البائس :

رأيت الناس قد ذهبوا ---الى من عنده ذهبُ

ومن لا عنده ذهبُ ---- فعنهُ الناس قد ذهبوا

فلا يهمني جناس هذين البيتين ؛ تاما ام ناقصا كما يلهج البلاغيون ولا اطلق ساقيّ للريح واذهب الى قصدٍ لست اعلق به فقد عففتُ نفسي عن كل دبق او حلاوة عسيرة الهضم تتبعها أسقام للنفس او بريقٍ يصدم ناظريّ وبعدها أرى نفسي الغالية عليّ تصاب بعمى العين والقلب والضمير والوجدان .

كرهت " الزعفران الأحمر " الذي عبقت به وجبتي ذات سفرة أخذوني بها عنوةً الى مطعمٍ من مطاعم الارستقراط ولا اعلم لماذا تنعتونه بالنفيس جدا فلست من رواد مطاعم النخب التي تسمونها فاخرة وكيف غصصتُ في لقمتي وانا مخنوق بربطة العنق والبدلة الرسمية التي أرغمتُ على ارتدائها ذات ليلة وعشاء في مطعم " تابلتس الباريسي " فانا أتلذّذ بحمرة الورد الطليق لمرأى كل الناس لا بحمرة الزعفران المقدّم للخاصة واستشعر سعادتي في ان يشاركني الجميع بكل طبقاتهم مشاهد جميلة ومذاقا طيبا وليس من طبائعي ان اكون نهما كريها مستطعما الجمال وحدي وأفضّل ان استشعر الدفء واستحم في ألق الشمس الحمراء مع الهواء الطليق دون ان أنال من حمرة الزعفران لقمة سائغة مادام يقتصر سحر رائحتها الجاذبة على الخاصة .

وكلكم تعلمون ان افريقيا الفقيرة المعدمة أعطت الذهب الأصفر لأثرياء أوروبا وأميركا ليتباهوا به في صالوناتهم وليلعبوا به وبأثمانه في اسواق البورصة في الوول ستريت وأذياله وأذرعه من الفوركس وغير الفوركس ولم تنل القارة السوداء المعطاء الغنية بمناجمه سوى فتاته ورماده وانطفاء بريقه ؛ أما لمعانه فهو يزيّن صدور غوانيهم ويطوّق خصور خليلاتهم في المراقص والمقاصف والغرف السرية في فنادق الخمس نجوم وربما تصل لاحقا الى عشر نجوم او اكثر ، ومن يدري فقد يرتقون عاليا ليصلوا ويعربدوا الى نجوم السماوات العالية وربما في عقودٍ لاحقة يمتلكونها عقارات وضياع لهم ولأتباعهم وغوانيهم وعشيقاتهم ، فهذه الطبقة المسماة بالارستقراطية النهمة الطامعة الى حدّ الشراهة اذا امتلكت الارض كلها طمعت في السماء حالها حال زمرة رجال الدين وتجّار العقائد الاثرياء الذين ينعمون بثرواتهم وحظوتهم من جهد الآخرين ابتزازاً واستحواذا لآموالهم بحجج حقوق الله مع ان الله غنيّ عن خلقهِ ولا يحتاج لأموالهم ، اما عباده الفقراء فلا نصيب لهم من متاع الدنيا وخيراتها فما زالوا في عوز وقتر مادام منتفعو الدين فاتحي أفواههم نهما وابتلاعا .

بلاد فارس هي الاخرى استحوذت على الزعفران الأحمر وقد وصل إنتاجه الى آلاف الاطنان سنويا وهو الذي يباع بالقراريط والغرامات الذهبية كما الأصفر الرنان ، وتعدّ الان في صدارة الدول المنتجة له ولكنها لم تُـلذّذ بطون فقرائها من نكهته ونحتَ له الغرب والعالم المتمدن الموسّر اسما محببا يغازل اسمه العربي ( saffron ) ويقدّم في مطاعم النخب الراقية ومقاصف القارة العجوز والعالم الجديد ؛ اما العالم العتيق شبه الجائع فله ان يعلك الخبز اليابس وتنقيعه في دموع الحزانى الجائعين او مائهم غير الصالح للشرب .

اما البترول او الذهب الاسود الوفير عندنا حاضرا وخزينه الهائل مستقبلا فقد غدا وبالا علينا ولا نشمّ منه سوى زناخة رائحته النفّاذة الطاغية حينما يطفو على سطح أرضنا ... وهكذا تتحول النعمة الى نقمة لاننا لم نحسن تدبير وتدوير ماكنة العقل وتشغيلها بواسطته لنحقق إنتاجا وإعمارا ونبني مصانع ومصافي لتخريج اكثر من / 300 مادة من النفط الزنخ فصار وقودا يحرقنا تشغله ماكينات المصانع المنتجة للسلاح العسكري من دبابات وآليات وطائرات تدور محركاتها من وقودنا لتبدأ بقتلنا وإعاقتنا نحن ضحايا الحروب العبثية وغير المشروعة التي ينتجها العقلُ الخبيث السافل المتوحش الطامع وتكون مادتَه العقلُ البليد الجاهل المغرق في الغباء وسهل الانصياع والطواعية للكذب والتضليل والمكر .

اما " الأوراق الخضر" المغرية ورقرقة الدولارات الشهية الإيقاع -- والحقّ اقول -- فليست من عندياتنا ، فهي من مبتكرات العم سام وزبانية الرأسمالية ولسنا من صانعيها ، ولايحق لنا ان ندّعي انتسابها الينا ؛ لكننا نصاب بالهوس والاشتهاء حينما نسمع رقرقتها بين الأنامل وقد يضحي الكثير منها بقيمهِ وأخلاقه ويستأصل من ضميره شيئا من نداه ونعومته البضّة ويبيعه في ايّ سوق لشراء الذمم والمواقف غير النبيلة حتى ينال نصيبا منها .

تلك هي سحر الألوان عند من يريد ان يكتنز ويشبع الى حدّ التخمة المفرطة او كما يسميها اجدادنا العرب " البِطنة " ويتمظهر بكسوة غير كسوته الانسانية عافانا الله منها ومن مآزقها وبلاياها وألوانها الزائفة .

يكفينا نحن الزاهدين قسطٌ من احمرار الحرية ونترقب شمسها التي لابد تطلع يوما ما ولانهتمّ باصفرار الوجه عند الخجل والاستحياء وفقر دمائنا مادامت لم تتغذّ من السحت وأنواع الموائد الناتجة عن النهب والسلب والاستحواذ غير المشروع ففيها من السمّ أصناف الى جانب العسل لو كانوا يبصرون ويتحسسون ، ويؤنسنا اخضرار الارض ونماء عشبها وزهو أوراق اشجارها وطلع نخيل عمّتنا بصفرتهِ المحببة عوضا عن الأوراق الخضر الكولونيالية والذهَـب الذي قضى وضيّق قبلا على سكان الهنود الحمر من قبل المهاجرين الشذّاذ الاوَل على العالم الجديد ، بأحمالهم وأحلامهم في الاكتناز ، ودعونا وحدنا نتظلل بالسماء ولو كانت سوداء مادامت مرصّعة بالنجوم تتلألأ فوق رؤوسنا العالية الشامخة بالنبل والتعفّف قبل ان يستحوذ عليها الناظرون الى السماء طمعا ومنهم أوصياء وممثلو الله الكاذبون المزيفون .

جواد غلوم

[email protected]