كم من الاخبار الصادمة نسمعها بين حين واخر تبدو للوهلة الاولى عاديّة قياسا الى كوارث الحروب ونزاعاتها وما يصيب الاخرين من المدنيين ونتائجها الكارثية على الشعوب المغلوبة على أمرها لكن هناك بعض الانباء أقسى واكثر إيلاما وخطورة معا لو ينظر اليها نظرة البصير من رؤية بعيدة المدى لكنها تمرّ علينا مرور الكرام وكأنها نزهة لو قورنت ببلايا الحروب وويلاتها التي لاتريد ان تنتهي.

يقول الخبر الذي غمر قلبي حزنا وأسى كبيرين كأنما استلب مني أعزّ مانملك ؛ اذ صرح مؤخرا المدعو " ويسي قايناق " نائب رئيس الوزراء التركي ان بلاده انتقت من اللاجئين السوريين ما مجموعهُ ( 22 ) الف أسرة سورية لتمنحها الجنسية التركية وهذه الأسر المختارة تمتلك من الكفاءات والمهارات الانسانية بحيث تسهم في إنماء الاقتصاد التركي وارتقاء المستوى العلمي في بلاد بني عثمان ومنهم علماء ومخترعون متميزون ورؤوس أموال ضخمة.

واضاف هذا النائب القبيح باسمه وبفعله ان النية تتجه في المستقبل القريب على منح (85 ) الف سوري آخر الجنسية التركية بعد عملية انتقاء دقيقة لشهاداتهم العلمية ومواهبهم الحرفية وممتلكاتهم المالية التي ستدعم حتما الاقتصاد التركي وتحسن من مستوى بلاده في مختلف المجالات ولتذهب سوريا الى الجحيم أما عقولها المتميزة وحرفيوها الماهرون وأثرياؤها الى النعيم العثماني، وليسُدْ التخلف والجهل والعوز وقذارة الحرب في الشام كلها اذ لاتكفي تلك الحروب على سحق البلاد وتدمير عمرانها وارثها الحضاري ليضيف اليها السلطان التركي إفراغها من مبدعيها وصانعيها وأثريائها ليبقيها كسيحة على فقرها وغياب كوادرها البانية المعمّرة لو وضعت الحرب أوزارها بعد امد غير قصير حتما.

هذه الاجراءات التي اتخذت لِعيّنة منتقاة بعناية من السوريين كانت تلبية لدعوة اردوغان في اذار / العام الماضي / 2016 لفرش البساط الاحمر والترحيب بثروة سوريا وعلمائها حصرا دون بقية شعبها البسيط المفقر المعنّى حيث يعيش معظمهم اوضاعا غاية في السوء بملاجئ وخيام نُصبت بعيدا في العراء.

الا يتضح هذا الاجراء ان الغرض من هذه الحرب وأحد اهدافها الرئيسية سلب كفاءتها وتهجير اهلها وانتقاء من تريده لتتريك نخبتها الراقية وقبل هذا مارست تركيا أخسّ أنواع اللصوصية حينما عملت على تفكيك ارقى المصانع في مدينة حلب الصناعية وشحنها الى مختلف المدن التركية وتركيبها مجددا هناك حيث تم خلال السنوات الماضية تفريغ المدينة من اهم مصانعها البالغة اعدادها مايزيد على ثلاثمئة مصنع كانت تنتج خيرة الملابس والانسجة الراقية التي تعتمد عليها سوريا في تنمية اقتصادها قبلا ُ والان أضحت لبني عثمان بعد سرقة المكائن والمعدات والمواد الاولية وشحنها الى عدة مدن تركية وهي سرقة عيني عينك كما يقول المثل الشعبي وفي وضح النهار لتعزيز اقتصادها صناعيا على حساب الشعب السوري المنكوب.

كم علينا نحن العرب ان نربّي اجيالا وكفاءات متميزة لنهديها الى غيرنا؟؟ ولماذا تبقى اوضاعنا كلها مضطربة بهذا الشكل لنطرد العقول النيرة ونبقى على تخلفنا بسبب الممارسات والسلوكيات الرثة الكامنة فينا بدءا من النظم السياسية البذيئة التي تحكمنا والاوضاع المربكة التي نعيشها كالحروب والكوارث التي نصنعها بايدينا وعدم احترام وتقدير المواهب العلمية والادبية والفنية وسيادة الجهالة وتضييع فرص النجاح والمحاباة على اساس طائفي وقبلي، والاّ هل يعقل ان كفاءاتنا العربية المهاجرة الى العالم كله تفوق أعدادها كفاءات المواطنين الصينيين والهنود في اوروبا واميركا وبقية بلدان العالم المتحضر وهذان البلدان كما لايخفى من اكثر بلدان العالم في عدد سكانها ويعدون بالمليارات لا بالملايين.

اية هوة كبيرة تتعمق بيننا وبين بقية الدول السائرة في مضمار التقدم والتي تأخذ منا خيرة ابنائنا من اطباء ومهندسين وعلماء ذرة ومبتكرين خلاقين وعقول راقية تمتلئ بهم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ( الولايات المتحدة واوروبا ) ومثيلاتها في استراليا وفي بقية الشتات لتأتي لاحقا الجارة العاقّة تركيا لتستنزف اخر ماتبقى منا من النخب العلمية الراقية السورية بعد ان فقدت دولنا العربية الاكثر ثراءً في عقول ابنائها ( مصر ولبنان والمغرب والعراق وتونس ) والتي تشكل 75 % من نسبة العقول المهاجرة لكل بقاع العالم ولم يبق الاّ القليل لتستحوذ عليهم تركيا وسيكون ناتجنا صفرا من اية كفاءة ماكثة عندنا في السنوات القريبة اللاحقة اذا بقيت اوضاعنا مربكة وغير متوازنة .

ليس لدينا سوى ان نربت على كتف مريضنا بتوئدة ونقول له: انت ايها المريض مت بسقمك ولو كان بسيطا يسهل علاجه فلا احد من نطاسيينا يدنو منك لانه بعيد ويخاف المجيء الينا وقد يخطف او يقتل وهو داخل المشفى او العيادة الطبية الخاصة به .

ولتدعْ ايها المهندس المصمم البارع بناءنا وخلّنا نرتع في خرائبنا فلا حاجة لنا بك لتعمر وتبني فقد أنسنا الخراب والدمار ولم نعد نهتم بالعمران وقد اعتدنا ان تهدم سقوفنا على رؤوسنا، فالله يبارك المستضعفين ليدخلهم جناته في قصور وصروح عامرة في الآخرة تعويضا عمّا عانيتموه في الحياة .
ومادام الوضع يظلّ كارثيا وعلى المكشوف ؛ فلنرعب رب الاسرة ونقول له دع اولادك يتسافلون جهلا فليس لدينا اساتذة أكفّاء وينحدرون عقليا لأن ليس لدينا اكاديميون ومربّون بارعون سعاة الى تنمية النفوس والعقول ليستنهضوا الشباب نحو سوح العلم والادب والفن والرياضة والأنشطة الانسانية الاخرى فقد ولّت الابتكارات العلمية الى غير رجعة مادام الشعب بقي خانعا لسلطة تهمها منافع نخبتها الشخصية وتنتهز فرصة التسلط على رعيتها لتشيع الفساد والافساد وتشغل الملأ بخزعبلات الطائفية والعرقية وتختلق المعارك وتعيد وجه الكراهية شبحا يطاردنا اينما نولي وجهنا داخل بلداننا .

وخلّ اقتصادك ريعا دائما بلا صناعة ولا زراعة ولا اي نشاط اقتصادي يشعرك بالفخر وتتدنى قيمة بلادك ورفعتها من خلال ماتقدّم من انتاج فوضى وعجز ونكوص لتفسح المجال كي يهرب الشرفاء والمبدعون كلٌ في حقله لتستقبلهم الاغراب وتقدم لهم كل الخدمات والاعتبار والميزات لينهضوا ببلدان المنافي ويتركوا الاوطان للعابثين وعديمي المران والجهّال ليتحكموا به ويؤرجحونه يمنة ويسرة بلا دراية وهدف محدد ومرسوم وهكذا دواليك نخطو من سيء الى أسوأ فمصائب عرب عند أميركان وأوروبيين وفرسٍ وتركٍ وروسٍ فوائد .

في ارثنا الغنائي العراقي اغنية قديمة تقول " انا الربيت ولغيري يصيرون " وهذا هو الحال والمصير البائس الذي يحيق بنا لاننا أهدرنا كفاءاتنا ودفعنا خيرة علمائنا الى الغير، وكلّ الاسف عمّا جرى ويجري الان لاننا عمدنا الى تهجيرهم طرداً ونفيا كي يسود ضيّقو الافق وقاصرو المعرفة والرعاع والمارقون والاسافل واللصوص ببلاد الظلم أوطاني .


[email protected]