حين بدء أسلافنا القدماء في فجر التاريخ يفكرون ويتأملون ويتساءلون حول وجودهم ومصيرهم، كانوا يعيشون في جماعات صغيرة متفرقة رحل يتنقلون بحثا عن المأكل والمأوى، خاضعين لضراوة الطبيعة ومزاجيتها وتقلباتها، لذا تخيلوا قوى خارقة خارج الطبيعة تتربص بهم وتتحكم بمصائرهم اتخذوها آلهة لهم يعبدوها ويقدمون القرابين لها لكي تحميهم ولا تغضب عليهم وتعاقبهم، وبالتالي، ومن أجل الراحة النفسية والطمأنينة، اعتقدوا بحدوث المعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة وقدرة تلك الآلهة على اجتراه تلك المعجزات. و بعد قرون طويلة، إثر هيمنت طبقة الإكليروس الدينية والكهنة ورجال الدين والمؤسسات الدينية القوية على أذهان وعقول ومعتقدات البشر، بزغ عصر العلم بفضل المشاهدة والمراقبة والمثابرة والتجارب العلمية والمنجزات التقنية أو التكنولوجية، اكتشف البشر قوانين الطبيعة الجوهرية وحقيقة وآلية عمل الكون المرئي أو المرصود والمنظور و وجدوا التفسيرات العلمية والعقلانية لظواهر الطبيعة الغامضة التي كانوا يعتبرونها منجزات إلهية ومعجزات، وتنامى الوعي و الروح النقدية، ونجح العلم في تقديم الإجابات عن سر الحياة ونشأتها، والكون وطبيعته الحقيقية ومكوناته وآليات عمله، والأهم من كل ذلك حقيقة البشر وتطورهم من الخلية الأولية البدائية إلى العقل العلمي الجبار في يومنا هذا. إن هذه الأوديسة أو الملحمة الوجودية بدأت منذ ما يربو على 13،820 مليار سنة هي عمر الكون المرئي الافتراضي حالياً. لنعد إلى الوراء بمخيلتنا ونتخيل يوماً بلا أمس، ما قبل المكان والزمان الماديين اللذين نعرفهما جيداً، وسط اللامكان واللازمان واللاشيء، عندما كان كل شيء مضغوطاً في حيز مكاني لا يتعدى مكان أو فضاء بلانك، وفي لحظة زمنية لا تتعدى زمن بلانك، وهما أصغر وحدات قياسية في الوجود المادي، حين كانت المعلومة مركزة في الفرادة الكونية، وفجأة، بسبب غير معروف لحد الآن، تحرر كل شيء ووقع الانفجار العظيم وخرج المكمون إلى الوجود الظاهر، أولاً على شكل حساء بالغ السخونة، نوع من البلازما الكونية، ثم بات أقل سخونة ويبرد تدريجياً كلما امتد، مما أتاح إمكانية تشكل الجسيمات الأولية، إنه الكون الوليد. كانت الجسيمات الأولية على نوعين شبه متكافئين هما الجسيمات المادية والجسيمات المادية المضادة matière et antimatière،، ولو كانت كميتيهما متساوية تماماً لمات الكون المرئي لحظة ولادته لأن الجسيمات المتناقضة والمتباينة ستفني بعضها البعض، ولكن لأسباب ما تزال غامضة حدث خلل في التناظر الفائق وكان عدد الجسيمات المادية أكبر قليلاً من عدد الجسيمات المادية المضادة، وهو الأمر الذي سمح للكون المرئي بالوجود والبقاء على قيد الحياة.
لم تجر الأمور بهذه البساطة والسلاسة كما يبدو ظاهرياً، فالتمدد الكوني في مراحله البدائية الأولى، شتت المادة في الفضاء ولم يكن التشتت متجانساً ومتسقاً بل متباين الكثافة، وبالتالي، بدأت الجاذبية بالظهور في المناطق الأكثر كثافة بالجسيمات الأولية المادية المتبقية. بدأ بالتشكل نوع من الأغبرة والغمامات والسحب الغازية وكان تجمعها الكثيف، وبفعل الضغط الشديد ودرجة الحرارة العالية جداً، قد أدى إلى حدوث نوع من تفاعلات الاندماج النووي، ومنها ولدت أولى النجوم التي تولدت في داخلها العناصر الكيميائية المتعددة الأثقل فالأكثر ثقلاً والتي أولدتنا بدورها فيما بعد ما يعني أننا جميعاً أبناء النجوم.
ومن بين النجوم الفائقة الحجم والكتلة خرجت المسعارات الكبيرة supernovas،، السوبرنوفا التي خصبت الكون الوليد بالعناصر الثقيلة التي طبختها في الفرن الذري في قلب النجوم، وكانت قوانين الفيزياء آنذاك مختلفة قليلاً إلى حين بلوغ بعض النجوم المستوى المطلوب أو اللازم من الكتل لتنفجر. وبعد مضي مليارات السنين وتعاقب حقب التفاعلات النووية الاندماجية، تشكلت أولى المجرات ومن بينها مجرتنا درب التبانةLa voie Lactée
ومن بين مكونات هذه المجرة نجم عادي متواضع ومبتذل أسميناه الشمس. وقبل 4،5 مليار سنة، ومن محتويات قرص من الغازات والثلوج التي تدور حول الشمس تجمعت مكونات كوكبنا الصخرية، وشكلت كرة من الصخور والمعادن المتجمعة كانت على مسافة مثالية من الشمس فلم تكن قريبة لتتحول إلى كوكب من الجمر أو فرن حراري، وليست بعيدة بما فيه الكفاية للتحول إلى كتلة من الثلج المتجمد، مما أوجد الظروف الموائمة لانبثاق الحياة على سطح هذه الكرة المسماة الأرض. كان هناك كويكب تائه بحجم المريخ تقريباً اصطدم بالأرض الوليدة وكان من نتائج هذا الارتطام ان انفصلت قطعة كبيرة من مادة الأرض ورميت إلى الفضاء المحيط لكن هذه القطعة ظلت مرتبطة بالأرض بواسطة الجاذبية الأرضية وهي التي تعرف اليوم بالقمر التابع للأرض ما أدى إلى حرف محور دوران الأرض ما يعني أن الطاقة القادمة من الشمس لم تعد تتركز في منطقة واحدة وكان التأثير الثقالي للقمر قد منع الأرض من أن تدور على نحو عشوائي حول محورها وهذه الحالة أدت إلى استقرار الطقس الأرضي وجعله بمنأى من التغيرات المدمرة ومن جراء ذلك تحول كوكب الأرض إلى ما يشبه مهد للحياة الأولية الوليدة، وبتأثير جاذبية القمر على المحيطات الأرضية ولدت ظاهرة المد والجزر وبفضلها ظهرت اليابسة تدريجيا لتتلقف الحياة البدائية التي ولدت في مياه المحيطات. ومن ثم تطورت الحياة من شكلها البدائي أحادي الخلية إلى ما هي عليه اليوم من تطور بيولوجي معقد ومتقن يتجلى بأبهى مظاهره ألا وهو الإنسان إلى جانب الحيوان والنبات.كما رسمتها نظرية داروين في التطور والانتخاب الطبيعي التي استمرت على مدى 3،8 مليار سنة حيث انتقلت الموروثات الجينية عبر الأجيال المتعاقبة للتطور الحياتي.
ونستنتج من ذلك أن عملية الخلق لم تجر وفق السيناريو الميثولولجي الديني الخرافي الذي قدمته النصوص الدينية المتمثل بخلق الله لآدم ومن ضلعه أخرج حواء التي أغوت آدم بارتكاب الخطيئة الأولى وأكله ثمرة الشجرة المحرمة كما تقول الأسطورة الدينية. فكوننا المرئي لم يأت جراء إرادة إلهية خارقة تجسدت عملياً تلبية لمقولة كن فيكون من العدم واللاشيء.
إن اللاشيء الذي انبثق منه الشيء المادي الملموس هو في حقيقة الأمر الخواء الكمومي أو الكوانتي والمعروف لدى العامة بالفضاء الفارغ والذي يمكن التعامل معه بنظريتي النسبية العامة والميكانيك الكمومي أو الكوانتي فالنسبية العامة تتعاطى مع قوة الثقالة أو الجاذبية لكنها في جوهرها نظرية المكان والزمان أو الزمكان وتشرح وتفسر ديناميكيات حركة الأجسام خلال الفضاء الكوني بل وتتناول ديناميكيات الفضاء نفسه وتوضح تطوره.
الروحانيون والمتدينون وأصحاب العقل الخرافي لايمكنهم أن يستوعبوا فكرة نشوء شيء من لاشيء الذي هو في الحقيقة انبثاق شيء ما من فضاء فارغ ظاهريا مليء بالجسيمات الافتراضية غير المرئية وغير القابلة للرصد حالياً وهو فراغ سابق للوجود المادي وهو بدوره ناشئ من اللامكان، وبالتالي تراهم يركنون لتصور مثالي رومانسي عن إله يسمونه الله هو الوحيد القادر على أن ينتهك المستحيل ألا وهو خروج شيء من لاشيء حسب اعتقادهم. و هو الأمر الذي ردده طيلة آلاف السنين علماء اللاهوت وقالوا بضرورة وجود قوة وراء الطبيعة وخارج الكون واعتبروه الممكن الوحيد.
فأمام الكم الهائل من الأسرار الغامضة والألغاز المستعصية التي طرحتها الدراسات المكرسة للكون المرئي المنظور والمرصود الذي نعيش فيه بات لا بد من طرح نظريات جديدة أكثر جرأة للبحث عن إجابات مقبولة ومقنعة وأصبح من الضروري اللجوء إلى طرق جديدة ومبتكرة للتعاطي مع العلوم الفيزيائية، سيما فيزياء الجسيمات الأولية وفيزياء ميكانيك الكموم أو الكوانتوم للكشف عن القوانين الحقيقية، المعروفة والمجهولة، التي تحكم وتسير العالم الذي نعيش في داخله. ومن بينها طاقة الفراغ والتقلبات والتراوحات أو التموجات الكمومية أو الكوانتية والطاقة السوداء أو المعتمة والمادة السوداء أو الداكنة والمادة المضادة والثقوب السوداء، والتخلص من مسلمة الكون الواحد والغوص في أطروحة تعدد الأكوان، وتعدد الأبعاد المكانية، وفك شفرة الزمن، ومعرفة ما قبل وما بعد الإنفجار العظيم، وما وراء الأفق الكوني المنظور أو المرصود،، أي كشف حقيقة الفراغ الكوني الماكروسكوبي والميكرويكروسكوبي، واللاشيء والعدم والوجود واللاوجود ومعرفة طبيعة وحقيقة التضخم الكوني المفاجيء والأبدي الدائم، الذي طرحه العالمان الفيزيائيان أندريه ليند وألان غوث.
إن ما عزز مثل هذا التحول الجديد في مجال الدراسات الكونية والفيزياء النظرية هو ما حققته التكنولوجيا في هذه المجالات من قفزات كبيرة كانت بمثابة انعطافات حادة في سياق الدراسات والأبحاث الكوسمولوجية والفلكية. وعلى الأخص نتائج المشاهدات والرصد التي حققها التلسكوب الفضائي بلانك وتحليلاتها المختبرية.
إن النظرة المعاصرة للكون المرئي تمدنا بفرضية علمية ممكنة بل وضرورية لمواجهة المعضلات المستعصية والمقصود بها هنا أطروحة الأكوان المتعددة واحتمال أن كوننا المرئي ما هو إلا واحد من مجموعة لا نهائية العدد من الأكوان المتميزة عن بعضها ومنفصلة عن بعضها أو متشابهة ومتداخلة في بعضها البعض الآخر وقد توجد اختلافات في الأوجه الأساسية للواقع الفيزيائي في كل منها مما يفتح لنا آفاقاً جديدة لفهم واقعنا ووجودنا.

[email protected]