استعراض قوة، أو أهواء سياسية، أو رسائل مبطّنة .. كلها احتمالات واردة كخلفية لضربة ترامب الصاروخية الموجهة لنظام الأسد.

هكذا يرى أولئك الذين يستبعدون أن تكون الضربة جاءت بدوافع إنسانية .. أو تأديبا لنظام صار متهما بأنه وراء استعمال غاز السيانيد لقتل المدنيين الأبرياء في سوريا .

لن تدخل إدارة ترامب بالطبع في جدل حول ضربتها، فهي تحرص ـ كسابقاتها ـ على إيجاد أرضية قانونية لأي عمل عسكري خارجي .. فالأقوياء لا يمارسون سطوتهم بذريعة أنهم الأقوياء، ولكن لأنهم يخضعون لقوانين، هكذا يقولون، تجبرهم على ما يفعلون سواء كانوا مخطئين أو مصيبين .

بالطبع لسنا بصدد الحديث عما إذا كانت الضربة عملا مشروعا كما تقول إدارة ترامب، أو عدوانا على سيادة دولة مستقلة كما تقول إدارة بوتين في الكرملين . فالضربة قد وقعت وانتهى الأمر، وهناك من سيتصدى لهذه الجوانب في تحليلات مستقلة أخرى، لكن ما يهمنا هو الذرائع القانونية التي تتيح للولايات المتحدة أو غيرها ضرب دولة أخرى دون انتظار إذن من الأمم المتحدة ودون اكتراث لما يمكن أن يحدث من ردود فعل دولية لاحقة .

ولتقريب الصورة، فإن القوانين الإقليمية المرعية في كل الدول، وكذلك الأعراف، تحفظ للأشخاص العاديين حقا أصيلا هو حق الدفاع عن النفس، فالقاتل الذي يزهق روح المقتول يكون مبرأ من الإدانة إذا ثبت أنه كان يدافع عن نفسه تجاه خطر يتهدد حياته .

نفس هذا الحق انتقل إلى القوانين الدولية، والتي طالما تغاضت عن اعتداءات صريحة وصارخة تحت غطاء الدفاع عن النفس، ولعل حرب عام 1967 كانت من أبرز الأمثلة على دثار (الدفاع عن النفس)، حيث شنت إسرائيل عدوانا شاملا على كل من مصر وسوريا والأردن بعد قيام جمال عبدالناصر بإغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، فاعتبرت إسرائيل ذلك عدوانا على مصالحها الإستراتيجية وعلى حقها في البقاء، فشنت العدوان دفاعا عن النفس ـ حسب تبريرها ـ واستطاعت أن تحتل سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، في حين وقف العالم الغربي مذهولا بما جرى،مستكينا للتبرير القانوني الإسرائيلي بأن تل أبيب كانت في حالة دفاع عن النفس .

والأمثلة الأقرب زمانا ما زالت ماثلة في الأذهان، فحين تدخلت إدارة بوش الأب في الأمور عقب اجتياح قوات صدام حسين للكويت .. كانت الذريعة القانونية التي حرص بوش على الاستناد إليها في تبريره ليست فقط الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وإنما (الحفاظ على المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة) .. محددا ذلك بالخطر الماثل من اقتراب قوات صدام حسين من المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية، حيث المصالح الأمريكية والبترول الذي يشكل عصب الحياة وقتها للولايات المتحدة الأمريكية .

هكذا انفتح الغطاء القانوني (الدفاع عن النفس) أمام إدارة بوش للتدخل، بل ولقيادة المنطقة للسيناريوهات اللاحقة .. ولم يستطع العالم أن يقول شيئا تحت ذرائع القانون رغم الأصوات التي لم ترض بما جرى .

حتى اقتلاع نظام صدام واحتلال العراق لم يكن إلا بغطاء قانوني حرصت الولايات المتحدة وحلفاؤها على إعلاء شأنه والترويج له، وهو امتلاك صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل، وهو ما يعني تهديدا للولايات المتحدة وحلفائها في منطقة يبدو أنها مرشحة على الدوام للتأزم لموقعها وثرواتها وثقلها الديني .

واستصحابا لهذه الخلفية .. لم يكن مستغربا أن يستند ترامب في خطابه المذاع عقب الضربة الأمريكية على مطار الشعيرات العسكري السوري على المسوغ القانوني، حيث أشار إلى أن (من مصلحة الأمن القومي الحيوي للولايات المتحدة الأمريكية المنع والردع لانتشار الأسلحة الكيميائية القاتلة واستخدامها) . في حين لم ينس طبعا بعض الاكسسوارات العاطفية التي تزين كل خطابات الزعماء، من حرص على حماية الأبرياء، ومحاربة الإرهاب بكل أشكاله وألوانه .

ولعل الفقه القانوني الدولي يميل إلى توسيع (المخاطر المحتملة) ليجعلها دائما دافعا لتوجيه الضربات وتحريك الجيوش تحت مظلة الدفاع عن النفس، ليصبح الحلفاء والأصدقاء والسلم والأمن الدوليين ضمن مبررات (الدفاع عن النفس)، ولتظل جدليات الحقوق والقوة والشرعية مستمرة في كوكب الأرض طوال المستقبل المنظور .

هذا ما جرى، وهذا ما ستسير عليه الأمور إلى أن يستقر العالم على قواعد جديدة تحفظه من العدوان، وتقيه من الاضطرار للدفاع عن النفس صدقا أو إدعاءً .

[email protected]