تعيد إدارة ترامب بناء الصورة الذهنية الأمريكية في ظل ما تعتقد أنه خروج من مرحلة ضعف غير مسبوق اتسمت بها إدارة الرئيس السابق أوباما، لذا تلجأ الإدارة الأمريكية إلى تكريس ما يقوله البعض في العالم عن "تهور" الرئيس ترامب، حيث وجدت الإدارة أن هذه الصورة كفيلة باستعادة هيبة الولايات المتحدة علماً بأن قرار الضربة الصاروخية الأمريكية ضد قاعدة "الشعيرات" الجوية السورية قد كشفت عن أن الأمر لا يتعلق بتهور غير محسوب، بل يرتبط بدرجة عالية جداّ من الحسابات الاستراتيجية الدقيقة، التي كسبت من ورائها إدارة ترامب الكثير في هذه الجولة.

تعمد إدارة ترامب إلى وضع العالم، حلفائها وخصومها على حد سواء، في مربع صعوبة توقع ردود أفعال الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب، وهي استراتيجية يربطها خبراء غربيون بتأثير "عامل كيسنجر" في إشارة إلى دور وزير الخارجية الأسبق، والمنظر الأشهر في تاريخ الولايات المتحدة، على إدارة ترامب، باعتباره صاحب مبدأ "الأفعال غير المتوقعة" في السياسة الخارجية، وهو نهج يؤمن به كسينجر كثيراً، ويعتقد أنه يحقق مردود عالياً في تكريس هيبة القطب الأوحد في النظام العالمي.

يؤمن كسينجر وفريق من الخبراء الأمريكيين بضرورة تخلي الولايات المتحدة عن الحذر الزائد والحسابات المبالغ فيها في ردود أفعالها، وأن عليها التصرف أحياناً بدرجة محسوبة من الطيش والتهور من أجل دفع الآخرين لالتزام القلق والخشية من ردود أفعالها، باعتبار أن هذا النمط من التصرفات يتوافق مع هيبة القوة الأوحد ويحقق لها هدف الضغط الاستراتيجي المتواصل على الخصوم والمنافسين ووضعهم في دائرة مستمرة من القلق والخوف

ودوامة من الحسابات التي تحول دون إقدامهم على تبني أي خطوة في اتجاه الاضرار بالمصالح الأمريكية.

هذا النهج الأقرب للعشوائية ظاهرياً في نظر البعض، هو نمط محسوب بدرجة هائلة في حقيقة الأمر، بل يخضع لحسابات استراتيجية دقيقة تفوق بمراحل حسابات الدبلوماسية التقليدية، فهو يضع مخططي السياسات الأمريكية في حالة مستمرة من الدراسة وإعادة تقدير المواقف وبناء السيناريوهات غير التقليدية والتفكير خارج الصندوق بحثاً عن قرارات وبدائل ومخرجات تتماشى مع هذا النمط من الفكر الاستراتيجي.

يوفر نمط الإرباك الاستراتيجي لدوائر صنع القرار هامش مناورة هائل في السياسة الخارجية الأمريكية، ويتيح لها التنقل بين المواقف بدرجة عالمية من المرونة، من دون أن تخشى الاتهام بالتراجع أو تبديل الموقف، كما يحول دون محاسبة الساسة الأمريكيين على تصريحاتهم وآرائهم المعلنة، فالمعيار في كل الأحوال متغير ويخضع لتقدير الموقف في توقيت الحديث أو التصريح ولا يعبر عن التزام سياسي ثابت، ما يفسر تصريح وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، الذي قال فيه "لن أحاول مطلقاً استقراء حدوث تغيير في سياستنا أو في موقفنا، في ما يتعلق بأنشطتنا العسكرية في سوريا اليوم"، فالأمر ببساطة يتعلق بالعمل بحرية تامة وفق معطيات اللحظة والمصالح الذاتية.

هناك مبادئ وأسس يمكن استخلاصها من هذه السياسة الجديدة، التي تبدو عشوائية، منها أن الولايات المتحدة لم تعد ملتزمة بفكرة عدم التدخل العسكري في الدول الأخرى طالما أن هناك ظروف تتماس مع مصالحها الاستراتيجية، وأن الولايات المتحدة لم تعد رهينة لأي حسابات تتعلق بالصدام العسكري مع دول أخرى، ولا تخشى حدوث ذلك باعتبارها قوة عظمى وحيدة، وهذه الأفكار هي المدخل لما تراه إدارة ترامب ضرورة لاستعادة الهيبة والمكانة الأمريكية.

من الآن فصاعداً، على العالم أن يتعايش مع سياسة خارجية أمريكية جديدة قائمة على انتفاء الثوابت وتبدل الأولويات وتغيرها وفقاً لكل حالة على حدة، والمعيار الأوحد في ذلك هو مصلحة الولايات المتحدة بحسب ما تعتقده إدارة ترامب ومستشاروها وخبرائها.

وفقاً لما سبق، يصعب القول بأن الضربة الصاروخية الأمريكي كانت تستهدف إطاحة نظام الأسد، فعنوان رأس النظام ومقر اقامته معروف لمتخذي قرار الضربة، ولكن المطلوب هو إشعار "الأسد" بالخوف والقلق على حياته الشخصية أولاً ثم على مستقبل نظامه ثانياً، ولذا نلاحظ أن هناك تقارير تحدثت عن احتمالية انتقال الأسد إلى الإقامة في مخابئ على غرار حسن نصر الله!

المصالح الاستراتيجية الأمريكية والروسية تلتقي غالباً عند فكرة الإبقاء على "الأسد" ضعيفاً مدجناً يسيطر على رقعة بسيطة من الأرض السورية والتسليم بوضعية هضبة الجولان الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي، فالأسد فقط هو من يستطيع تمرير هذه الخيارات في الوقت الراهن وليس سواه.

لا تريد إدارة ترامب أيضاً نفوذاً إيرانياً في سوريا، وهذه مسألة مفروغ منها، والمدخل لذلك لابد وأن يتم عبر إعادة هندسة الأدوار على رقعة الشطرنج السورية الصغيرة، وقد تم ذلك بفاعلية كبيرة عبر 59 صاروخ "توماهوك" وقف الحلفاء الإيرانيين والروسي في سوريا يتابعونها مكتوفي الأيدي!!

هذه الضربة ستسهم في "تدجين" النفوذ الروسي وإعادة بوتين إلى أرض الواقع بعد سنوات من الأحلام الاستراتيجية، ولكن إدارة ترامب لن تسقط في فخ "إذلال" روسيا ووضع أنفها في التراب، بل ستمضي وفق منطق

مساومة تجاري بحت، فلم يكن هدفها من الضربة سوى تلقين درس مهم للكرملين تمهيداً للتفاوض حول تقاسم النفوذ والأدوار في سوريا، وبالتالي فلن يخرج خالي الوفاض، بل غالبا ما سيحصل على جزء كبير مما يريد لاسيما ما يتعلق بشبه جزيرة القرم، شريطة أن ينفذ الشروط الأمريكية، وفي مقدمتها فض التحالف مع إيران في سوريان وهذا درس واضح لكل من أفاض في بناء توقعات وردية حول علاقات ترامب مع نظيره الروسي!!

لا تريد الولايات المتحدة انهاء الصراع في سوريا تماماً الآن، وهذا أمر واضح، بل تريد استمراره من أجل إنهاك جميع الأطراف والتدخل في الوقت المناسب تماماً لفرض ما تراه مناسباً لمصالحها وما يحقق مصالح حليفتها إسرائيل، وربما تمنح بعض الأطراف الأخرى مكاسب صغيرة!!

يعتقد البعض أن استراتيجية ترامب تصب في مصلحة تنظيم "داعش" وغيره من تنظيمات الإرهاب في سوريا، ولكن هذه الرؤية الاستنتاجية قائمة على فهم أبعاد الضربة الصاروخية ضد قاعدة "الشعيرات" من زاوية معينةـ ولا تأخذ بالاعتبار الموضوع برمته، فالضربة لم تستهدف إحداث توازن عسكري بين أطراف الصراع في الجبهة السورية " ولكنها استهدفت ردع الأسد عن استخدام أسلحة كيماوية ضد المدنيين واستعادة قدر من الثقة الدولية في الولايات المتحدة، وبالتالي لا علاقة لها بموازين القوى العسكرية على الأرض، ولكن الأرجح أنها تخيف "داعش" مثلما أخافت نظام الأسد وغيره.