أظهرت دراسة إحصائيّة نُشرت مؤخراً في لبنان سباقاً محموماً وتعادلاً تقريبياً في أعداد الناخبين ( فوق 21 سنة ) ما بين السنّة والشيعة مع أرجحية سنيّة ضئيلة، وبيّنت تجاوز تعداد المسلمين نسبة ثلثي إجمالي السكّان، المُزاحمة السكانيّة هذه تأتي على حساب الحضور الديموغرافي المسيحي لا سيما الماروني فيه، وتُثار شكوك حول مدى قدرة المسيحيين على الإستمرار بدورهم المحوري في حفظ لبنان الكيان الذي أرسوا هُم دعائمه الأولى منذ قرابة المئة عام، وفي ظل جو إقليمي قاتم ملبّد بالإرهاب وتهجير الأقليات من مواطنها، يضاعف وطأته ضعف الوازع الوطني جرّاء ما مرتّ به البلاد من أحداث، وطغيان هاجس الطائفة والمذهب، يُخشى أن يكون وجه لبنان وتوازناته الداخليّة قد تغيّرت جذرياً ونهائياً ما لم ينجح عهد الرئيس العتيد ميشال عون - والذي أعاد وهج الدور المسيحي بما لديه من قوة تمثيل سياسي وشعبي - في أن يُهيّء الجو الوطني بمختلف مكوناته لإجتراح تسويات عميقة يستلزم إنضاجها إهتماماً دولياً وظروف إيجابيّة فوق العادة لا تبدو ماثلة في الأفق المنظور. 

لبنان ككل يعاني من ما يجري حوله من موجة شتات تعُمّ دول الجوار، بَدْأً بفلسطين على حدّه الجنوبي والتي لجأ إليه منها منذ نكبة عام1948 زهاء 544,000 نسمة، وصولاً إلى سوريا على إمتداد حدّه الشمالي الشرقي والتي نزح منها أيضاً بحسب لوائح المسجّلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حوالي مليون ونصف المليون نسمة وهم موزّعين ومنتشرين الآن على كافة محافظات لبنان، إضافة إلى لاجئين عراقيين، ويُشكّل اللاجيء الفلسطيني والنازح السوري أكثر من ثلث عدد سكان لبنان حالياً، ما يثير مزيد من هواجس الوطن والهويّة ويضع البلاد تحت وطأة أعباء إقتصادية وإجتماعيّة وأمنيّة هائلة.

نال المُكوّن السنّي مُراده ولا مشروع سياسي لتزايده السكاني في لبنان، إلاّ أن التوجّس لا يزال قائماً لدى مكوّنات لبنانية أخرى من هذا التزايد المعطوف على أزمة اللاجئين الذين هم بأكثريتهم من العرب السنّة، يُضاف إلى هذا موقف سُنّة لبنان المُلتبس تاريخياً في مسألة سيادة الكيان، فهم أيدّوا الناصرية في الخمسينات والستينات ثم الثورة الفلسطينية التي أشعل طغيان حضورها المسلّح في سبعينات القرن الماضي شرارة الحرب الأهليّة، وبالواقع كانت تلك الموالاة على حساب مؤسسات الدولة أنذاك التي همّشت أي دور واضح للمسلمين من داخلها فإستخفوا بها ولم يشعروا بأهميّة الإنتماء لها، إلا أنّ ثمن تلك "الرومانسيّة السياسيّة" لدى المسلمين عموماً كان باهضاً على لبنان، وانزلق البلد في حرب طويلة، خلَت الساحة للمليشيات وتمزّق النسيج الوطني إلى حد بعيد، فشِلت جميع الشعارات، تدمّر لبنان ولم تتحرر فلسطين.

الآن، وبعد إتفاق الطائف الذي أوقف الحرب ولحظ دوراً وازناً لهم، ورغم التزايد السكاني المُطّرد وما يتطلبه من عدالة وإنماء شامل، يبدو أن السنّة قد إستكانوا بأكثريتهم إلى دعوة الموارنة والدروز التاريخيّة، أي إلى لبنان الدولة والكيان. 

أمّا المُكوّن الشيعي في تزايده السكاني الصاعد فيحمل مشروعاً سياسياً واضحاً، ويبدو اليوم أكثر فتوّة وإندفاعاً، التهميش والحرمان كانا قد طبعَا تاريخ الشيعة في لبنان حتى قدوم الإمام موسى الصدر ( 1960 م )،الإستفاقة الطبيعيّة هذه تحوّلت بفعل الحرب مع حركة أمل ثم لاحقاً وعلى نحو أشمل مع حزب الله الموالي لإيران إلى عاصفة سياسيّة وعسكريّة هادرة لن تستقر على حال في بلد هش كلبنان ما لم تنجلي أجواء ومناخات العواصف السياسيّة والعسكريّة في المنطقة أيضاً، ولهذا يرى البعض أن رسم حدود النفوذ الإيراني _ سلماً أو حرباً _ بعملية تسوية أو تقليم أضافر مشروعها هو ضرورة وطنيّة لبنانيّة عاجلة، وذلك لحفظ ما تبقى من توازن بين سائر أطياف ومكونات شعوبه. 

لا شك أن وطأة الحروب المتناسلة وتداخلات الجغرافيا بالتاريخ وسرعة التبدل في المشهد الإقليمي وتموضُع موازين القوى على خط الهزات والزلازل السياسيّة الكبرى كلها عوامل من شأنها مجتمعة أن تروّض الجميع، لكنّ شعوب لبنان لا ترحم نفسها، فلا تهدأ ولا تستكين إلاّ وقد أعياها صراعها المرير،عندها فقط تتواضع وتستريح على أريكة التسوية الذهبية،عندها فقط يصير المكتوب على الجبين أن لا أحد يلغي أحد وأنه لا غالب ولا مغلوب. 

 في مشهد اللحظة الراهنة تبدو الأحصنة السنيّة قد ركنت إلى "طائفها"، فيما الأحصنة الشيعية ماضية في معاركها الطاحنة حتى بلوغها " طائفاً " جديد، حيث مربط الفرس. 

كاتب لبناني 
[email protected]