حسمت الأمة التركية أمرها ووافقت ولو بنسبة ضئيلة على التعديلات الدستورية، التي ينبغي القول إنها فُصّلت على مقاس الرئيس رجب طيب أردوغان الذي قاد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة ليستمر منذ العام 2002 ، ولينتقل بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة من شخص أعدت منصة إعدامه إلى زعيم لا يُجارى، يرى في ذاته أقوى زعيم شهدته بلاده منذ مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال اتاتورك، فبدأ بتعزيز سلطته وصلاحياته من خلال تغييرات دستورية جاء آخرها ليغير نظام الحكم من نظام برلماني إلى رئاسي فيُلغى منصب رئيس الحكومة. وهو استفتاء كان عملياً استفتاءً على أردوغان والدولة التي رسمها على شاكلته، دولة قومية ومحافظة وتلفها المشاكل، فبعد أن كانت ركناً آمناً في الشرق الأوسط، تحولت اليوم إلى دولة مُبتلاة بالهجمات الإرهابية، تعثّر نموها الاقتصادي، ويقبع في سجونها عشرات الصحفيين، وتغص شوارعها بثلاثة ملايين لاجئ سوري.
في واقع الأمر لم يكن أردوغان بحاجة لتوسيع صلاحياته، فهو أحد الزعماء الأقوى الذين شهدتهم تركيا، ويمكنه إقرار ما يريده من القوانين، وها هو يشن حرباً في سوريا ويبعث بالقوات الى العراق دون مراعاة أحزاب المعارضة المتناقصة، والسياسة الخارجية التركية تتقرر في قصره الرئاسي، ورئيس الوزراء ليس أكثر من مدير مكتبه، والجيش في عهده بات جسداً خانعاً، مصاباً بالكدمات القضائية والجماهير التي مست بمكانته، والإعلام مطارد، والاقتصاد ينهار. فلماذا يحتاج صلاحيات جديدة إن لم يكن الهدف ذاتياً يتعلق بجنون العظمة.
صحيح أن تركيا في عهده نجحت في التحول إلى واحدة من اقتصادات العالم الأقوى، وتوسعت الطبقة الوسطى توسعاً كبيراً، كما استفاد الملايين من الأتراك اقتصادياً من زعامة أردوغان الذي ترتفع صوره العملاقة فوق منشآت جامعة تحمل إسمه، وبما يؤكد ظاهرة عبادة الشخص من خلال تسمية مؤسسة بإسمه وهو ما زال على قيد الحياة، وصحيح أنه يوجه عناية خاصة للمناطق التي تعد معقلاً للمشاعر القومية، ويسكنها مواطنون متدينون كانوا يشعرون بالتهميش والإهمال منذ عقود، ووجدوا فيه ضالتهم المفقودة. لكن الصحيح أيضاً أنه يسعى لتجاوز مكانة أتاتورك، أكبر الرموز التركية على الإطلاق، فمبادئ مصطفى كمال العلمانية أضحت مجرد ذكرى في كثير من أنحاء البلاد، وهو وإن كان بدأ كمصلح مؤيد لأوروبا في سنوات حكمه الأولى، فإنه انقلب على نفسه مُظهراً الجانب الاستبدادي، وحزبه الذي كان مد يده للديمقراطيين والليبراليين واليساريين والكرد، بات يدعو لهيمنة جانب من تركيا على الجانب الآخر، بينما أردوغان يروّج للعقلية العثمانية القائلة إن تركيا محاصرة من قبل أعداء لها، وبدأت نظريات المؤامرة بالظهور أسبوعيا تقريباً، وأخذت أذرع الرئيس باللجوء إلى مؤيديه المخلصين والتخلص من أعضاء حزبه الذين يبدون أي قدر من معارضته. وجرى الحد من حرية التعبير، مما ضيّع الكثير من الانجازات التي حققها في سنيه الأولى، إذ سُجن الصحفيون والكتاب والأدباء والفنانون باعتبارهم خونة، واستعادت تركيا موقعها السابق بوصفها البلد الرائد في سجن الصحفيين. وهو اليوم يساوي بين التصويت لتعديلاته وأداء الفريضة التي تمنح بطاقة دخول إلى الجنة، وهنا يبدو واضحاً أن الاستفتاء حرب الوطنيين ضد الخونة.
بحصول أردوغان على ما يصبو إليه في الاستفتاء، فإنه سيؤسس نظاماً تسلطياً يقود تركيا إلى الديكتاتورية، زاعماً أن قيادة مركزية قوية ستمنحه السلطات اللازمة للتصدي للتهديدات الإرهابية التي تواجهها تركيا، مع أن منتقديه يقولون إن ضعف السيطرة على الحدود السورية، والدعم الذي تقدمه الحكومة لفصائل الجهاديين، عرّضت تركيا للتهديد الذي يمثله تنظيم داعش وسمح للخلايا الجهادية بالنمو والترعرع في تركيا، إضافة لذلك، فإن السياسة التي ينتهجها في سوريا، ومحاربته للقوات الكردية العاملة هناك، يُعرّض تركيا للمزيد من المخاطر ويؤدي إلى هجمات انتقامية يقوم بها حزب العمال الكردستاني.
أردوغان يسعى اليوم للتشبه بمؤسس الجمهورية أتاتورك، الذي كان رئيساً عظيم الصلاحيات سيطر من خلال حزب واحد لسنوات طويلة، هما زعيمان بنيا ديمقراطية سلطوية لا تحتمل الخصوم السياسيين، كلاهما يمقتان الحكم المبني على الائتلاف، وكلاهما أعاد من جديد تعريف الهوية القومية التركية. أتاتورك شطب الأقليات العرقية والقومية ومنح الجيش الصلاحيات العليا، وأردوغان يقاتل ضد الكرد ويجتهد لإلغاء وجودهم السياسي، ويرى في معظمهم عنصراً معادياً يمس بالقومية التركية. غير أنّ حزب الشعب الجمهوري المعارض يرى أن أردوغان يقوض الأسس العلمانية والديموقراطية التي أرساها أتاتورك لتركيا الحديثة. وأن التعديلات الدستورية المقرحة تتضمن تهجماً على إرث مؤسس تركيا. وأنه سيكون لأردوغان مكان في التاريخ، كرئيس للوزراء، والجمهورية ، إلا أنه سيبقى واحداً بين آخرين في حين أنه لن يكون هناك سوى أتاتورك واحد. إلا أن اردوغان يرفض الاتهامات الموجهة إليه بمحاولة شطب إرث أتاتورك قائلاً إن مؤسس تركيا كان ليدعم النظام الرئاسي الجديد. وهو يعتبر أنه يستكمل إرث الرجل الذي يسميه الغازي مصطفى كمال عبر بناء تركيا عظيمة قادرة على الوقوف في وجه القوى الأجنبية.
في العام 2005، بعد ثلاث سنوات من النصر الجارف في الانتخابات، طرح حزب العدالة والتنمية فكرة الرئاسة التنفيذية وسعى إلى انتخاب الرئيس مباشرة، ولكن المحكمة الدستورية رفضته، وأردوغان يدّعي أن وجود رئيس قوي سيحد من الفشل الطويل لحكومات الائتلاف، لكن المؤكد أن سبب ذلك شخصي يتعلق بالتطلعات لتركيز الصلاحيات في يده وحده دون التشارك حتى مع الموالين لشخصه، فالصلاحيات التي حصل عليها ستجعله زعيم البرلمان أيضاً وبإمكانه أن يكون عضو حزب، وبحيث يكون رئيس دولة لحزب وليس للجمهور كله، وسيكون مُحصناً من المحاكمة بسبب الاجراءات المعقدة وشبه المتعذرة لالغاء حصانته. كما يمكنه حل البرلمان وفرض الفيتو على القوانين، والتحكم بالجهاز القضائي، ويمكنه التأثير جوهرياً على مدة فترة ولايته كرئيس. وهو بانتصاره في الاستفتاء، سيكون شبيهاً بالرئيس الاميركي، ولكن دون قيود التوازنات والكوابح المتبعة في الولايات المتحدة.
ما يعنينا هو السؤال عن التغيرات المحتملة على سياسات تركيا الإقليمية، ومصير شبكة تحالفاتها المضطربة مع روسيا والاتحاد الأوروبي وعلاقاتها مع واشنطن، وتعاطيها مع الأزمة في سوريا، وعلاقاتها مع الجوار العربي والإيراني. فهو وإن كان مشغولاً حتى الأحد الماضي في المواجهة المصيرية الداخلية، لكنه بعد اليوم سينظر حوله، وربما يشرع في حملة لتصفية الحساب، ومراجعة تكتيكاته الدبلوماسية التي أضطر لها بفعل ضغوط الداخل وحسابات المعركة الدستورية.
لن يكون أردوغان في وضع أفضل داخلياً، فما تزال مصادر التهديد للمشروع الأردوغاني ماثلة على كل المستويات، لكن اعتباراً من هذا التاريخ، يتعين على جميع القوى الإقليمية والدولية التعايش مع كونه سلطاناً جديداً وزعيما أبديا.