يبرز بعض الشيوعيين القدامى ليؤكدوا أن انتفاضة البلاشفة في 25 أكتوبر (التقويم اليولياني) إنما كانت ثورة اشتراكية وهم بهذا، عن جهل أم عن غيره، يبررون دعاوى قادة الأممية الثانية باتهام لينين بالمغامرة وبالهوس الثوري وهو ما دفعه إلى القيام بثورة اشتراكية في روسيا المتخلفة وفي غير أوانها ؛ وهي ذات الدعوى التي تعود اليوم ليدعيها الأعداء وبعض الشيوعيين المفلسين قصيري النظر . يدعي هؤلاء الأعداء مثل هذه الدعوى الجوفاء المضحكة بعد أن كان الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية قد قبض على أزمّة العالم بقبضته الحديدية، ولم يكن هناك إذاك أي أحمق ليدعي بمثل هذه الدعوى السخيفة . المشروع اللينيني من خلال تطوره لعشرين عاماً فقط وحتى بسلام مقلقل استطاع أن يخسر 20 مليون من مواطنية ويحتل برلين ب 6,5 مليون جندياً، وكانت الجيوش السوفياتاية حسب تقارير المخابرات الأميركية قادرة على أن تستمر متقدمة إلى الغرب حتى الوصول إلى واشنطن . ولعلي أفاجئ الأعداء والأغبياء في هذا السياق بأن أؤكد هنا أن قاطرة المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية التي نجح المخربون والإرهابيون في تعطيلها لبعض الوقت إلا أنها ستستأنف الرحلة وستصل إلى محطتها الأخيرة في وقت قريب .
في صبيحة الإنتفاضة في 25 أكتوبر 1917 دعا لينين جميع الأحزاب البورجوازية في روسيا للإشتراك في الحكومة الجديدة ومنها حزب (الكاديت) اليميني لكن هذه الأحزاب، كما رأى لينين، فضلت البقاء على الشط ريثما تتم تصفية الحساب مع حكومة كيرانسكي . ونقرأ لينين يخطب بعد أسبوع من الإنتفاضة يقول .. "القول بأن حكومة البلاشفة ليست على استعداد للتآلف مع الفلاحين هو محض افتراء . اللجنة المركزية تعلن أن قانون الأرض الذي تبنته حكومتنا هو نفس قانون حكومة الاشتراكيين الثوريين وهذا برهان فعلي على استعدادنا التام لعقد تآلف مع غالبية السكان في روسيا وبكل إخلاص" . ذلك كان يعني دون شك أن انتفاضة أكتوبر لم تكن ثورة اشتراكية فالقاعدة العلمية التي كان ماركس قد حددها في "نقد برنامج غوتا" 1875 تقول أن لا إشتراكية بدون دكتاتورية البروليتاريا، ولينين أعلن كما أعلاه أن البلاشفة ليسوا مستعدين لعقد تحالف مع الفلاحين فقط بل ومع غالبية السكان في روسيا . وما لا يعلمه العامة في هذا السياق هو أن الصحافة ظلت تصدر بكامل حريتها ما بين نوفمبر 1917 ومارس آذار 1918 حين رفعت كافة الأحزاب البورجوازية السلاح بوجه البلاشفة متآلفة في جبهة حربية مع فلول القيصرية وملاك الأراضي بما في ذلك المنشفيك والإشتراكيين الثوريين وكان من حداة هذه الحرب على البلاشفة تروتسكي الذي رفض توقيع معاهدة برست لوتوفسك مخالفاً تعليمات لينين وعاد إلى موسكو ليجند الأعداء ضد لينين بادعاء أن لينين عميل ألماني!! قامت الحرب على البلاشفة بادعاء أنهم فرطواوا بسيادة روسيا مقابل أطماع المستعمرين الألمان لكن سرعان ما تبين كذب هؤلاء وخيانتهم عندما استدعوا جميع المستعمرين في العالم لإرسال جيوشهم إلى روسيا لإبادة الشيوعيين .
في المؤتمر العام للأممية الثانية في بازل/سويسرا 1912 أتخذ قرار يقول أن على الإشتراكيين في روسيا القيام بالثورة البورجوازية نظراً لهشاشة الطبقة البورجوازية وهو ما تبدّى بجلاء حيث فشلت حكومة الاشتراكيين الثوريين في التقدم خطوة واحدة على طريق الثورة، ثورتها البورجوازية في فبراير شباط . إذاك ترتب على البلاشفة إزاحة الحكومة البورجوازية المؤقتة من أجل استكمال الثورة البورجوازية تطبيقاً لقرار الأممية الثانية 1912 .

في هذا المقام بالضبط يجب ألا ننسى أن قوى الإنتاج تتكون من عنصرين أولهما قوى العمل البشرية (Labour Power) أي العمال والعنصر الثاني وهو أدوات الإنتاج (Production Tools) . صحيح أن أدوات الإنتاج كانت متخلفة في روسيا وأن الإنتاج الرأسمالي لم يتجاوز نسبة 20% من مجمل الإنتاج القومي في روسيا إلا أن العمال الروس أثبتوا بالدفاع عن سلطة البلاشفة على أنهم أقوى من عمال بريطانيا ومن عمال ألمانيا آنذاك فلم يمض عام على الحرب الأهلية إلا وأجهز العمال وجيشهم الأحمر على قوى البورجوازية والرجعية مجتمعة وهو ما مكن لينين من إعلان الثورة الإشتراكية العالمية في الإجتماع التأسيسي للأممية الشيوعية (Comintern) فقط في 6 مارس آذار 1919 وقد برهنت البروليتاريا الروسية على صدقية شهادة لينين بعد أن سحقت 19 جيشاً جاءت من أربع عشرة دولة رأسمالية استعمارية "لتخنق البلشفية في مهدها" ورُدّت مهزومة شر هزيمة في العام 1921 . القوى الإستثنائية الباهرة للبروليتاريا كانت التعويض الجوهري عن التخلف النسبي لأدوات الإنتاج في روسيا وهو ما يكفي لدحض مزاعم الأممية الثانية وبعض الشيوعيين المفلسين بأن ثورة البلاشفة بقيادة لينين كانت في غير أوانها، ناهيك عن أن الاتحاد السوفياتي برهن في الحرب على أنه أقوى قوة في الأرض وهو ما دفع تشيرتشل يكتب إلى ستالين في 6 ابريل نيسان 1943 يقول .. " أنا أعي بكل جوارحي أنكم المردة ونحن لسنا مثلكم ". فهل بعد هذا يمكن القول أن ثورة أكتوبر جاءت في غير زمانها!؟
الحزب الشيوعي السوفياتي لم يناقش تطبيق الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي إلا في مؤتمره العام العاشر في مارس 1921 حيث قررت أغلبية المندوبين البدء بتطبيق الإشتراكية بمواجهة أقلية بقيادة تروتسكي تقول أنه لا يمكن تطبيق الاشتراكية في بلد واحد . ذلك ما يعني أن البلاشفة حكموا في الإتحاد السوفياتي لأربع سنوات دون أن يكون هناك انتهاج اشتراكي . فقط بعد تحطيم البورجوازية الروسية والقوى الدولية التي ساندتها وجد الحزب الشيوعي البولشفي أن المجتمع السوفياتي انتهى لأن يتشكل من طبقتين فقط هما البروليتاريا والتي لم تعد بروليتاريا بالمعنى القاموسي للكلمة والطبقة البورجوازية الوضيعة التي تضم المهنيين والفلاحين والعسكر وموظفي الدولة . بمثل تلك التشكيلة الطبقية لا تعود الإشتراكية خياراً مطروحاً بجانب أي خيار آخر، فطبقة البورجوازية الوضيعة تستهلك الانتاج ولا تنتجه وهي لذلك لا تبني بل تهدم وكلما زاد إنتاجها من الخدمات كلما اتسع استهلاكها من إنتاج طبقة البروليتاريا وزادت البلد المعني فقراً على فقر .
بعد كل ما تقدم يُستوجب الخلوص إلى أن قوى الإنتاج، العمال وأدوات الإنتاج، ملتحمين في وحدة واحدة، كانت في روسيا في العام 1917 أقوى منها في ألمانيا وفي بريطانيا ففي نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الدولتان، بريطانيا وألمانيا، تعانيان من الإفلاس التام والإنهاك الكامل ومع ذلك لم تنتفض قوى الإنتاج في بريطانيا وانتفضت في بافاريا 1919 إلا أنها كانت أكثر ضعفاً من قوى البورجوازية والرجعية وتم سحقها بكل وحشية عندما ثارت وأعلنت جمهوريتها السوفياتية في بافاريا في يناير 1919 .

كثيرون هم من يسيئون إلى الإنسانية غير أن الإساءة الأبلغ أذىً هي تزوير التاريخ أو قراءته على غير ما هو في حقيقته . التاريخ الزائف من شأنه أن يحول دون أن ترى الأمم طريق تطورها الصحيح ؛ تاريخ العالم فيما بعد الحرب العالمية الثانية 1945 لم ينجح أحد في قراءته قراءة صحيحة . ومن هنا، من هنا فقط، ترى جميع الأحزاب في مختلف الأمم لا تملك برامج عمل صادقة وقابلة للتحقيق . ولذلك فبدل أن يتقدم العالم بسرعة بعد الحرب أخذ يتراجع تراجعاً خطيراً حتى كان انهيار العوالم الثلاث التي أورثتها الحرب، العالم الرأسمالي والعالم الإشتراكي والعالم الثالث، وبات عالم اليوم عالماً مسطحاً معولماً بفعل الانهيار، ويصل الأمر فيه إلى أن يستعطف ليونيد بريجينيف، المفترض فيه أنه قائد الثورة الإشتراكية العالمية يشغل مركز لينين وستالين، يستعطف زعماء الإمبريالية المنهارة في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي في هلسنكي 1975 "الإلتقاء في منتصف الطريق فلا يخسر أي من الطرفين" – بات من يشغل مركز لينين وستالين حريصاً على ألا تلحق بالإمبريالية أية خسارة!! يا لمهازل التاريخ!!
مشروع لينين في ثورة أكتوبر الاشتراكية العالمية 1917 قام أساساً على تفكيك الرأسمالية الإمبريالية في العالم كي يتمكن عمال العالم المتحدون (يا عمال العالم اتحدوا) في بناء الإشتراكية، ويعلن ستالين في العام 1952 أن الرأسمالية الإمبريالية ستنهار في وقت قريب، وها هو قائد هذا المشروع في العام 1975 يعلن أمام العالم تعهداً قاطعاً بحرصة الشديد على أمن معسكر الإمبريالية والا تلحق به أية خسارة!!
أحداً من المتخصصين في معاهد الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في العالم أو من المؤرخين على اختلاف مدارسهم لم يشر من قريب أو بعيد إلى هذا الانقلاب الأكبر في التاريخ . كان كبيراً لدرجة أنني في السجن في صيف العام 1963 وقد تسنى لي قراءة تقرير خروشتشوف المقدم ألى المؤتمر العام الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في أكتوبر 1961 أكدت لرفاقي في السجن أن الاتحاد السوفياتي سينهار في العام 1990 . وحال خروجي من السجن في ابريل نيسان 1965 أكدت للأمين العام المساعد للحزب الشيوعي الأردني أن طغمة القيادة في الحزب الشيوعي السوفياتي إنما هي طغمة معادية للشيوعية ولهذا السبب تحديداً كان ابتعادي عن الحزب الذي لم يعد قطعاً شيوعياً .

(يتبع)