نشرت وزارة الخارجية الروسية باللغة الإنكليزية الصيغة الرسمية لإتفاق خفض التصعيد الموقع بين كل من إيران، روسيا، وتركيا، الذي يشكلسعياً نظرياً لتخفيض النزاع في دولة أخرى هي سوريا؛ وذلك بين قوات النظام السوري الذي يسيطر على أجزاء من سوريا وقوات المعارضة المسلحة السورية التي تسيطر على أجزاء أخرى، دون أي توقيع من ممثلي طرفي النزاع. بل أيضاً دون أي مشاركة فعلية أو رمزية للمؤسسات الدولية ذات الصلة والمخولة بموجب تفويض الدول المنضوية تحتها لممارسة بعض الصلاحيات بهذا الخصوص. ودون أي مرجعية لأي اتفاقات أو قرارات ذات صلة سوى إشارة إسترشادية لقرار مجلس الأمن 2245 ليس لها أي أثر قانوني أو عملي على الإتفاق ودون أي إشراك لمبعوث الأمم المتحدة الخاص بسوريا.

هذا شيء غير مألوف في السياسة الدولية وتسوية النزاعات والحروب الإقليمية والأهلية. ولا أستطيع الجزم كليّاً بأنه إطار مستحدث لتسوية النزاعات الداخلية، فهذا الاتفاق لا ينزع فقط سلطة القرار، والتحكم، والسيطرة، من يد السوريين بشأن بلادهم، بل ينزع أيضاً الأهلية السياسية للتفاوض والإتفاق عن عموم السوريين. [لم أستخدم السيادة هنا فهي لم تعد ذات معنى في سوريا]، ويضعها بأيد دول خارجية لتقرر مصيرهم باتفاق سيترك أثراً واقعياً وسياسياً وقانونياً دون أي مرجعية قانونية دولية ذات صلة. إنه نوع مستحدث من الانتداب التشاركي. 

الإطار المفاهيمي للإتفاق 

سوف أستعرض في هذه الفقرة أبرز المصطلحات السياسية التي استخدمها الاتفاق لتشكل الإطار المفاهيمي الذي بني على أساسه الإتفاق بين دول تشكل قوى أمر واقع [Powers of status quo]في المعادلة السورية. 

استخدم الإتفاق مفردة "Memorandum" كعنوان له وفقاً للنص الإنكليزي الرسمي، وهذه المفردة تعني وفقاً لتعريف قاموس ميريام ويبستر محضر لاتفاق غير رسمي، واتصالات دبلوماسية غير رسمية. ذلك يعني أن الدول الموقعة على هذه "المذكرة" تدرك المعضلة القانونية لإطار الإتفاق الموقع من قبلها كدول غير ذات صلة وفقا للقوانيين الدوليةبشأن دولة أخرى. ولذلك استخدم الاتفاق تعبير الضامنين “Guarantors”لوصف الدول الموقعة على هذا الإتفاق/ المذكرة وفقا للنص الرسمي. وهو تعبير مختلق ببراعة لمنح الإتفاق شرعية ظاهرية تتماشي مع القانون الدولي، ودون خلق أي التزامات على هذه الدول اتجاه السوريين أنفسهم أو اتجاه النظام الدولي ومؤسساته.

إن مركز الاتفاق هو المفردة الإنكليزية “De-escalation areas” والتي تعني تخفيض في المدى أو الحجم أو المجال، في مناطق قرر خلقهاوتحديدها في سوريا. هذه المفردة مختارة بعناية شديدة لوصف المناطق المزمع إنشاؤها، فهي لاتعني "مناطق آمنة" كليّاً كما راج في التعبيرات السياسية عن الإتفاق، ولاتعني أيضاً مناطق "وقف قتال" كليّاً، لأن الاتفاق يقرر في بعض بنوده استمرار القتال ضد تنظيم الدولة الاسلامية وتنظيم جبهة النصرة وحلفائهم نظرياً. كما لايعني كليّاً وقف تدخل قوات النظام أو القوات الروسية أو الإيرانية ضد أهداف في هذه المناطق لمقاتلة المستثنيين. 

أيضاً استخدم الاتفاق تعبير "Security Zones" لوصف السياج المحيط بـ "مناطق خفض التصعيد"، التي هي بالأصل مناطق تسيطر عليها قوات المعارضة المسلحة. وجُعل هذا السياج خاضعا لإدارة قوات"الضامنين" وأي طرف ثالث يتفقون ويوافقون عليه. ويشمل ذلك نقاط التفتيش والمراقبة والإدارة. 

إن تعبير المناطق الأمنية [وليست الآمنة] هو الذي خلق الالتباس لوصف مناطق خفض التصعيد بالمناطق الآمنة. فتعبير المناطق الأمنية تعبير غير شائع في السياسة الدولية ويستخدم نادراً، وهو مستخدم على نطاق واسع كمفهوم للأمن الداخلي أي داخل الدول وليس على حدودها، كأن تفرض قوات الشرطة منطقة أمنية في بقعة محددة من حي أو حي أو مدينة أو منطقة داخل الدولة أو حتى حول مبنى آيل للسقوط. وأشهر استخداماته دولياً كانت في الحرب العالمية الثانية عندما فرض الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت منطقة أمنية في المحيط الأطلسي قبل انخراطبلاده في تلك الحرب. كما استخدمته إسرائيل لوصف المنطقة التي كانت تحتلها من جنوب لبنان وتسيطر عليها قوات وكيلة لها. فلم يستخدم الاتفاق أي من التعابير المستقرة في السياسة الدولية لوصف هذا السياجبين أطراف متحاربة، سواء دول أو كيانات عسكرية تسيطر على مناطق جغرافية، كـ "المنطقة العازلة" أو "المنطقة منزوعة السلاح"! ذلك أن الاتفاق يتعامل مع شأن داخلي ولا يريد أن يكرس "مناطق خفض التصعيد" بشكل دائم. كما أن الاتفاق مؤقت لمدة ستة أشهر يمدد تلقائيا باتفاق "الضامنين".

مناطق خفض التصعيد 

نص الاتفاق على أربع مناطق محددة تندرج تحت اسم "مناطق خفض التصعيد" وتتشكل من محافظة إدلب ومناطق متاخمة لها من المحافظات الاخرى، ومنطقة محددة من شمال حمص، مناطق محددة من جنوب سوريا في محافظتي درعا والقنيطرة، وفي الغوطة الشرقية. وماعدا محافظة إدلب التي عينت بالنص وهي بالتالي تشمل حدودها الإدارية، فإن جميع المناطق الأخرى عائمة غير محددة واستخدم تعبير مبهم "مناطق محددة في"، وذلك لوصف بقية المناطق عدا محافظة إدلب، وقداستخدم هذا التعبير أيضا لوصف المناطق المحيطة بها من محافظات اللاذقية وحماة وحلب، كما استخدم الاتفاق تعبير "في الغوطة الشرقية" وليس الغوطة الشرقية لوصف المنطقة المزمع إنشاؤها أو تسييجها هناك. ولا ينص الاتفاق بأي حال على شمول محافظتي درعا والقنيطرة بل مناطق محددة فيها. 

وقد ترك إنشاء الخرائط لهذه المناطق لـ "مجموعة العمل المشتركة" التي سيشكلها "الضامنون" من ممثليهم، وأعطيت "المجموعة" مهلة حتى 4 حزيران/يونيو لإنجاز الخرائط بما فيها خرائط فصل قوات المعارضةالمسلحة المشاركة والتي ستشارك في اتفاق وقف إطلاق النار السابق عن قوات تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة ووكلائهم وحلفائهم. ولم ينص الإتفاق على أي دور لقوات المعارضة أو قوات النظام أو ممثلين عنهم في تحديد هذه المناطق أو رسم خرائطها. 

الواقع السياسي الذي يفرضه الإتفاق

شكل هذا الاتفاق [الإنتداب التشاركي] وضع يد للدول "الضامنة" أي روسيا وإيران وتركيا على سوريا وآليات تسوية النزاع فيها، وخفض دور الدول الإقليمية والدولية في معادلة النزاع السوري بما فيها الولايات المتحدة ودول الخليج التي كانت تصر [محقة] حتى وقت قريب على إستبعاد إيران من أي دور لها في تسوية النزاع في سوريا وذلك لمشاركتها المباشرة كطرف في النزاع لصالح النظام، لكن هذا الإتفاق أدخل إيران وشرعن وجودها وتدخلها وأخرج الدول العربية الفاعلة في الوضع السوري من المعادلة، ولم يعد لدول الخليج من منفذ إلا ركوب العربة التركية للعب دور في المعادلة السورية. كما عزل الاتفاق الدور الأمريكي في مناطق سيطرة الميليشات الكردية، وحدد دورها [الذي اختارته] في مسار محدد هو الحرب التي تخوضها ضد تنظيم الدولة الإسلامية عبر "التحالف الدولي الجوي" والقتال الأرضي عبر وكيلها الممثل بالمليشات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني. كما خفض هذا الاتفاق أي دور لمجلس الأمن والمؤسسات الدولية لتسوية النزاع السوريوأحال هذا الدور إلى دور رمزي ربما سيُحضر للتوقيع فقط. 

لم يترك الإتفاق ولا والواقع السياسي الحالي، أمام قوات المعارضة المسلحة أي خيارات للرفض أو القبول ليس لأنهم مجرد وكلاء محليين لأطراف إقليمية إما شاركت أو استبعدت، بل لأن واقع الجغرافية-السياسية قد تغير كليّأ بعد التدخل الروسي الحاسم في المعادلة السورية فلم يعد أمامها حل سوى الفناء أو القبول بهذا الاتفاق. ذلك أنهم وقعوا بين فكي التخلي الأمريكي والإندفاعة الروسية الحازمة لفرض واقع سياسي وعسكري في سوريا لصالحها. وهذا ما أدركته الدبلوماسية التركية التي عانت من هذا التخلي من حلفائها الأمريكيين والأوربيين استتباعاً فقررت ركوب العربة الروسية لحفظ دورها في سوريا.

وفي معادلة الخاسرين من هذا الاتفاق الذي يرسم وضعاً جديداً في سوريا، يضيق المناورة كليّاً أمام الدول التي لعبت طويلاً في الملف السوري، تأتي قطر على رأس القائمة. فقد قضى الإتفاق نهائياً على دور قطر التي استثمرت في وكيلها جبهة النصرة ومشتقاتها وتحولاتها لفترة طويلة. بل إن "الصفقة" التي أدارها الروس ببراعة مستفيدين من التخلي الأمريكي تمت مع قوات المعارضة المسلحة على هذا الأساس: شرعنة وجودها وتحويلها لطرف سياسي مقابل القضاء نهائيا على مشتقات القاعدة في سوريا. وضمن الروس رسمياً بموجب الاتفاق مشاركة قوات المعارضة المسلحة في القتال ضد جبهة النصرة ومشتقاتها وحلفائها ناهيك عن تنظيم الدولة الذي يقاتلها أساساً. 

ومن نافل القول أن الإئتلاف السوري وكل القوى السياسية المعارضة التي كانت تحظى بدور إسمي في إطار المفاوضات تحت الرعاية الدولية، حولها هذا الإتفاق إلى "خردة سياسية" ربما سيستخدمها الأتراك للتوقيع إذا كان ذلك ضرورياً. 

الخلاصة

لا ينص الإتفاق على أي مصطلح سياسي يوحي بتقسيم سوريا، بل إن المسار العملياتي لتنفيذ الاتفاق وعبر الدور الحاسم للروس والإيرانيين كحلفاء للنظام سيجعل إعادة توحيدها أكثر قابلية للتنفيذ، ولكن تحت ظل النظام القائم وهي المرحلة التي ستعقب هذا الاتفاق. إذ أن الاتفاق يرسم مساراً لتصفية "القضية السورية" ويحولها إلى صفقة "مصالحة شاملة" على غرار المصالحات التي أجراها النظام والإيرانيين في مناطق أخرى عبر السنوات الماضية والتي نتج عنها عمليّاً سيطرة النظام والميليشيات الحليفة كليّا على تلك مناطق. لكن هذه المرة بمشاركة تركية ستحفظ دوراً محدوداً لقوات المعارضة المسلحة في مسار التسوية تحت ظل النظام والذي قد [قد فقط] يقوم ببعض العمليات التجميلية بضغطٍ روسي كرمي بعض الوزارات للمنخرطين في التسوية. 

لكن في النهاية لابد من التحفظ على هذا التحليل الذي قد يبدو مساراً إجبارياً. فهذا التحليل يرتبط ببقاء عناصر المعادلة السياسية السورية، وقوة الفاعلين كما هي حالياً، والتي تقوم على دور روسي حاسم إلى جانب النظام مقابل تخلي أمريكي كلي عن المعارضة المسلحة والسياسية، وحصر الدور الأمريكي لنفسه في مقاتلة تنظيم الدولة الإسلامية. لكن هذا الواقع قابل للتغير بشكل جذري إذا ما قررت الإدارة الأمريكية الجديدة قلب الطاولة على هذه المعادلة في أي وقت. وهذا سيرتبط وفقاً لوجهة نظري بضمان الروس تحجيم الدور الإيراني في سوريا لاحقاً من عدمه.