في مثل هذه الأيام من عام 1965 دار نقاش حامي الوطيس بيني وبين الأمين العام المساعد للحزب الشيوعي الأردني فيما إذا كان يترتب على الحزب الشيوعي الأردني الإرتباط بالحزب الشيوعي السوفياتي حيثما اتجة، كما رأى الأمين العام المساعد، أو فيما إذا كان على الحزب أن يبحث عن شرعية أردنية من داخل المجتمع الأردني ليؤمن استقلاله كما رأيت آنذاك !! ولما لم ينته النقاش إلى اتفاق حيث أكدت أن القيادة السوفياتية حتى بعد طردها لخروشتشوف من الحزب كانت ما زالت خائنة للماركسية اللينينية ترتب على الإبتعاد عن الحزب الشيو عي الذي أصر على ارتباطه بالقيادة السوفياتية الخائنة، وقد كابدت وعائلتي نتيجة ذلك كل صنوف الجوع والإذلال. اليوم أرى أن كلينا الأمين العام المساعد وأنا كنا مخطئين. فقد ثبتت خيانة القيادة السوفياتية وكان يجب على الحزب أن يفك ارتباطه بها، ومن جهة أخرى فأي حزب شيوعي في بلدان العالم الثالث يفقد كل شرعية له بفقدان مركز الثورة الشيوعية في موسكو طالما أن الثورة الشيوعية هي ثورة على النظام الرأسمالي العالمي وتماثله في البنية فهي ذات مركز وأطراف، كما رآها ماركس، ولذلك تموت الأطراف بموت المركز. 
اليوم يستحوذ عليّ الندم على عشر سنوات 1953 – 1963 كنت خلالها مضللاً يوالي بحماسة مفرطة القياد السوفياتية منذ رحيل ستالين حتى اكتشافي خيانة القيادة السوفياتية وابتعادي عن الحزب الشيوعي الأردني المضلل.

كان لينين قد أكد في خطابه يفتتح الإجتماع التأسيسي للكومنتيرن في 6 مارس آذار 1919 أن الثورة الشيوعية العالمية غدت مضمونة النجاح وهو ما يعني أن الشيوعيين بقيادة لينين قد أخذوا يقودون العالم في منعطف جديد يؤدي بالضرورة إلى الشيوعية. ما سجله التاريخ بريشة فولاذية هو أن ستالين قد قاد مشروع لينين بنجاح أبهر العدو قبل الصديق حتى كان اغتيالة بالسم من قبل قيادة الحزب الشيوعي نفسها أثناء عشاء 28 فبراير شباط 1953 في بيت ستالين – كان ستالين قد طالب المؤتمر التاسع عشر للحزب بإبعاد تلك القيادة وانتخاب غيرها إلا أن الهيئة العامة للمؤتمر لم تصغِ لطلب ستالين وأعادت إنتخابهم جميعاً.
قراءتنا المختلفة للتاريخ تقودنا إلى التساؤل..لماذا يتجاهل المؤرخون والمحللون الاستراتيجيون مشروع لينين وكأنه لم يكن ولم يفتح طريقا جديدة للتطور الإجتماعي ما زال العالم يتعثر فوقه لكنه سيصل إلى نهاية الطريق في وقت قريب جداً مهما تعثر ؛ ويصل الأمر بهولاء القوم إلى ما يثير الشبهة والاستهجان وهو التجاهل التام لدور الاتحاد السوفياتي في الحرب والقضاء على النازية التي كانت تخطط لاستعباد العالم، كل العالم لألف عام.
الدول الغربية لم تجرؤ على الإنزال النورماندي إلا بعد معركة الدبابات في كورسك الروسية حيث نجحت القوات السوفياتية في كسر العمود الفقري للعسكرية الألمانية في صيف 1943 وباتت هزيمة ألمانيا الهتلرية ماثلة في الأفق في 6 يونيو حزيران 1944 يوم الإنزال النورماندي. خسرت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية 5 ملايين و 300 الف عسكري، ولما لم تقاتل فرنسا أكثر من خمسة أسابيع انتهت باستسلام فرنسا وهزيمة بريطانيا في دنكرك (Dunkirk) وعادت الدول الغربية تفتح جبهة في غرب أوروبا بعد أربع سنوات فمن الصعب تقدير خسائر المانيا الهتلرية في مواجهة الدول الغربية بأكثر من 300 ألف عسكري والباقي وهو 5 ملايين قتلوا في مواجهة السوفيات. حاربت أميركا وبريطانيا ايطاليا على شواطئ المتوسط طيلة خمس سنوات فكان مجموع ما قتلت من عسكر ايطاليا أقل من 320 ألفاً فقط. وبافتراض أنها قتلت من النازيين الألمان نفس هذا العدد – وهي في الحقيقة لم تقتل أكثر من نصف هذا العدد – في 11 شهرا ما بين الإنزال واستسلام ألمانيا - فذلك يعني أن مساهمة الدول الغربية في الحرب لا تساوي أكثر من 15:1 من مساهمة السوفيات. وبدلالة الخسائر فقد خسر الاتحاد السوفياتي من عسكره فقط ما يساوي أكثر من 20 ضعفاً من خسائر بريطانيا وأميركا مجتمعتين.
نحن نتطرق هنا إلى الخطوط العامة في الحرب العالمية الثانية كي نؤكد دون أدنى التباس على أن المؤرخين والمحللين الإستراتيجيين لم يقرأوا التاريخ كما هو في الحقيقة بل قرأوا تاريخاً من صناعتهم، ولعلهم تعلموا من العرب تزوير التاريخ – وأمجاد يا عرب أمجاد - فلم يقرأوا معركة موسكو بالرغم من أنها أول هزيمة لحقت بألمانيا الهتلرية في الحرب، ولم يقرأوا معركة ستالينجراد التي أوقعت أكبر الخسائر بألمانيا، ولم يقرأوا معركة كورسك أكبر معركة للدبابات في تاريخ الحروب والتي كسرت العمود الفقري للعسكرية الألمانية، ولم يقرأوا معركة برلين التي احتلها السوفييت دون أن يدخل برلين أي جندي غربي قبل أن يعين ستالين قطاعات منها كعاصمة العدو المشترك لحلفائه اميركا وبريطانيا وفرنسا.
لئن بلغت الوقاحة بهؤلاء القوم لأن يتجاهلوا أفعال الحرب العالمية العظمى رعم أنها تمت بالحديد والنار على الأرض فكيف لنا أن نستهجن منهم تجاهل الحوادث والأفعال الأخرى مثل إعادة إعمار الاتحاد السوفياتي التي أدهشت غورباتشوف حتى أنه نسبها لمخلوقات غير أرضية وقد أنجزت بكل تفاصيلها المادية والمعنوية خلال خمس سنوات فقط في حين لم تنجزها دول غرب أوروبا بعشر سنوات رغم المساعدات الأميركية التي بلغت 12.5 مليار دولار آنذاك وهي تعادل اليوم 300 مليار. ولماذا لا يتجاهلون تصريح ستالين يرد على تشكيل حلف شمال الأطلسي في العام 1949 إذ قال.. " لن نحاربكم بل سنتغلب عليكم بالمنافسة السلمية " وهو عكس السياسة التي انتهجها خلفاؤه وقد حولوا الاتحاد السوفياتي إلى مصنع أسلحة وشكلوا حلف وارسو. لم يناقش المراقبون والصحفيون من الغرب قرار الأعضاء القدامى السبعة في المكتب السياسي، الذين كان ستالين قد طلب عدم انتخابهم لقيادة الحزب، في اجتماعم في صبيحة 6 مارس آذار قبل أن يدفن ستالين، قرارهم بإبطال انتخاب 12 عضوا جديدا تم انتخابهم أعضاء في المكتب السياسي في المؤتمر العام للحزب بإلحاح من ستالين، وفي ذلك مخالفة صريحة للنظام والقانون، ولا بدّ أن أولئك المرافبين والصحفيين كانوا قد علموا عن مطالبة ستالين مندوبي المؤتمر العام التاسع عشر للحزب بإبعا جميع أعضاء المكتب السياسي بمن في ذلك ستالين نفسه عن قيادة الحزب دون أن يستجيب المؤتمر للطلب. ولماذا لا يتجاهلون إلغاء الخطة الخمسية الخامسة وقد أعلنت بكامل تفاصيلها والتي كانت ستجعل من الاتحاد السوفياتي جنة الله على الأرض في العام 1955 لو لم يلغها خلفاؤه في العام 1953 وكان إلغاؤها المخالف للنظام وللقانون بمثابة الإنقلاب الكلي والصريح على الاشتراكية. ما يطعن في التاريخ الذي يقرأه المؤرخون الغربيون والمحللون الإستراتيجيون هو أنهم علموا بكافة طعونات خروشتشوف في شخصية ستالين وبكل تفاصيل التقرير السري في اليوم التالي لكنهم لم يعلموا حتى اليوم أن تقرير خروشتشوف لم يكن من أعمال المؤتمر العشرين ولم يعلم به أعضاء المكتب السياسي حيث لا يجوز أن يتلى في المؤتمر ما لم يكن قد خضع لتمحيص المكتب السياسي والموافقة عليه. ولما كانت تلك الجلسة السرية ليست من أعمال المؤتمر فقد عاد العديد من المندوبين إلى مدنهم حال انتهاء المؤتمر ولم يحضروا الجلسة الإضافية الخارجة عن أعمال المؤتمر كما أن رئيس الجلسة نيقولاي بولغانين منع مناقشة التقرير المجهول الأصل. فقط في 25 فبراير شباط 2006 تفاجئنا الغارديان البريطانية بنشر التالي.. " يفاجأ مندوبو المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي بدعوتهم إلى جلسة سرية نهائية للمؤتمر في مركز اللجنة المركزية للحزب. عندما ارتقى القائد السوفياتي خروشتشوف المنبر وبدأ الكلام بعض المندوبين من الحضور أصابه الذهول وغاب عن الوعي والبعض الآخر شد شعر رأسه بقبضتيه بشعور من الخيبة، غالبية المندوبين لم يصدقوا ما سمعته آذانهم " الغارديان البريطانية عرفت ذلك لكن بعد نصف قرن طويل. لكن لا الغارديان ولا غير الغارديان عرف تراجع خروشتشوف عن أكاذيبة بحق القائد التاريخي للبروليتاريا يوسف ستالين عندما خطب يفتتح المؤتمر الحادي والعشرين في العام 1959 وقال.. " تغلب حزبنا بقيادة ستالين على مختلف الأعداء والصعوبات وبنى لنا دولة اشتراكية عظمى نفاخر بها ". ما زال مجندو البورجوازية الوضيعة وبعض الشيوعيين المفلسين يلوكون أكاذيب خروشتشوف في العام 1956.
لا يمكن الإفتراض بحال من الأحوال أن المؤرخين والمحللين الاستراتيجيين لم يعلموا بالإنقلاب العسكري الذي قام به وزير الدفاع المارشال جوكوف في يونيو حزيران 1957 على إثر قرار المكتب السياسي للحزب سحب الثقة من خروشتشوف ؛ فبدل أن يتنحى خروشتشوف عن الأمانة العامة للحزب ورئاسة مجلس الوزراء قام بانقلاب عسكري وتم طرد الأعضاء السبعة من المكتب السياسي الذين سحبوا الثقة والإبقاء على عضوين فقط لم يسحبا الثقة وهما خروشتشوف نفسه وميكويان. وكانت أسباب الطرد المعلنة هو اجتماع الأعضاء المطرودين في اجتماع سري مسبق قرروا فيه سحب الثقة وهو كما يقال "عذر أقبح من ذنب" خاصة وأنه من المعلوم أن المكتب السياسي للحزب هو أعلى سلطة في الدولة وليس هناك أية سلطة في الدولة تلغي عضوية المكتب السياسي سوى المؤتمر العام للحزب وليس اللجنة المركزية أو حكم بالتجريم صادر عن محكمة رسمية ومحاكمة علنية.

بلغت الوقاحة بالإنقلابيين إلى حد إلغاء آخر سمات الإشتراكية في المؤتمر الثاني والعشرون للحزب "الشيوعي" السوفياتي في العام 1961. في التقرير العام للحزب تلا خروشتشوف القرارات التالية (1) إلغاء دكتاتورية البروليتاريا وهي الدمغة التي تميز الإشتراكية (2) الاستقلال المالي لمؤسسات الإنتاج وهو ما يعني التخلي عن الاشتراكية (3) فصل الثورة الوطنية عن الثورة الاشتراكية وهو ما يعني مهادنة الامبريالية. 
حالما تسنى لي قراءة ذلك التقرير المعادي للإشتراكية شكلاً وموضوعاً كتبت مذكرة لقيادة الحزب أطالبه بالحفاظ على مسافة معلومة بعيداً عن الحزب الشيوعي السوفياتي متمثلاً بالحزب الشيوعي الروماني. في تلك الأثناء وأنا أرى خروشتشوف يخون النهج الإشتراكي اللينيني الستاليني بدأت ترتفع أصوات مشبوهة تقول أن خروشتشوف ليس إلا ستاليني في الجوهر. وتحليلي لتلك الأصوات الغريبة هو أن العسكرتاريا التي استهلكت خروشتشوف ولم يبق لديه ما ينفع نهجها المعادي للإشتراكية قررت الاستغناء عنه وهو ما حدث بانقلاب عسكري في أكتوبر 1964.

كان ماركس قبل قرن ونصف الفرن قد كتب رسالة لأحد أصدقائه يقول فيها أن لا فضل له في كل ما كتب سوى اكتشافه لقانون فائض القيمة ؛ إلا أننا نرى اليوم أن ماركس كان قد تواضع في غير ما يحسن التواضع حيث هناك إكتشافان أكثر أهمية من فائض القيمة وهما أولاً "ديالكتيك الطبيعة" وهو الديالكتيك الذي يحكم ويخلق كل تهيؤات الطبيعة بمختلف أشيائها المعروفة وغير المعروفة حتى اليوم، وثانيا "علم التاريخ" المعني بافعال البشر والمحكوم أيضاً بقانون الديالكتيك. وعليه فقراءتنا المختلفة للتاريخ تعتمد على قانون نفي النفي أي أن التاريخ ينفي نفسه بنفسه بغير مشيئة البشر وهي لذلك فراءة موضوعية وغير غائية، أما غيرنا فيقرأ تاريخا من صناعته من خارج التاريخ قراءة غائية تقتصر غايتها على الزعم بانهيار الاشتراكية بغير رجعة رغم أن العكس هو الصحيح حيث أن الاشتراكية هي من حفر القبر عميقاً للرأسمالية.

(يتبع)