ان المتابع للشأن الإعلامي العام على المستوى المحلي والعالمي، يجد أننا امام مرحلة حرجة تُسجل في تاريخ الاعلام والصحافة، ويعود ذلك بالدرجة أولى الى انفلات موازين القوى العالمية وتحكّم الاقتصاد بالاعلام من جهة، فضلا عن تراجع الديموقراطيات بشكل عام في معظم دول العالم بما فيها الأوروبية والأميركية، حيث أصبحنا نجد فيها سياسيًا يُقّرع وسائل الاعلام ويتحداها ويقاطعها ويمنع عنها المعلومة، في ظاهرة ملفتة كانت حتى عهد قريب غير مقبولة في دول تنص بنود دساتيرها الأولى على حرية التعبير؛ فعلى سبيل المثال شن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هجوما لاذعًا على وسائل الإعلام، في معرض دفاعه عن سجل أداءه خلال أسابيعه الأولى في البيت الأبيض. كما قرر التخلي عن تقليد عشاء المراسلين الصحفيين في البيت الأبيض، ليصبح أول رئيس أمريكي يقاطع اللقاء مع الصحافة منذ رونالد ريغان عام 1981.

أما في منطقة الشرق الأوسط والدول العربية فإن الوضع الإعلامي مأساوي و ميؤس منه، فالحرب الدائرة في سوريا والعراق واليمن، حولتها الى مناطق منكوبة على كافة الصعد حيث تعد الأماكن الأكثر خطورة على العاملين في الحقل الاعلامي بحيث يتعذر على الصحفيين الموالين للأنظمة الرسمية أو المعارضين لها ان يعبروا عن آرائهم بشفافية أو ينقلوا كل الحقائق كما هي على أرض الواقع، وسط انفلات غير مسبوق وتضارب في المعلومات الأمر الذي يجعل المشهد قاتما بكل المعايير. 

أما في الدول المجاورة لمناطق الحروب كلبنان مثلا، فالفساد فيه مركبًّا ومتمرسا لدرجة ان "الحرية" الشكلية الظاهرة تخفي ورائها قمعا عنيفا، فالصحافة لا تنتقد الا الضعفاء ممن لا غطاء سياسي لهم، فيما الصحفيون يتعرضون لاضطهاد حقيقي وان كان غير مباشر وخوف دائم بسبب انفلات السلاح، حيث يؤدي انتقاد الزعامات ولاسيما الحزبية الدينية منها الى خروج انصار الحزب الى الشارع والعبث بالممتلكات، فضلاعن تعرض الاعلاميين للخطر الحقيقي كالاغتيالات مثلا، الامر الذي أوجد نوعا من الرقابة الذاتية لدى مقدمي البرامج بحيث يتحاشون انتقاد زعيم يشرّع لنفسه حق حمل السلاح والانغماس في حروب الدول المجاورة ويفرض نفسه على الدولة ومؤسستها بقوة السلاح، فلا يجرؤ اعلامي ولا فضائية على انتقاد "حسن نصرالله" على سبيل المثال! 

بطبيعة الحال لايمكن مقارنة الإعلام الغربي بنظيره العربي، حيث أن البعد الأمني الاستخباراتي غير موجود في المشهد الإعلامي بالدول الغربية، وان كانت هناك مؤسسات اعلامية مدعومة من رجال الإقتصاد والمال، ولكن يجب الاقرار انه كلما زادت الديموقراطيات زادت استقلالية الاعلام وارتفعت حرية الصحافة. 

ويسجل التقرير الصادر مؤخرا عن منظمة مراسون بلاحدود حول التصنيف العالمي لحرية الصحافة على مستوى العالم تراجع لكثيرمن الدول في مستوى الحريات ومن أبرزها الولايات المتحدة حيث احتلت المرتبة 43 بتراجع مرتبتين عن العام المنصرم اما المملكة المتحدة فاحتلت المرتبة 40 بتراجع مرتبتين أيضا. 

أما الدول العربية والشرق أوسطية فتحتل المراتب ما دون المئة وأفضلها في الحريات تونس التي احتلت المرتبة 97، أما لبنان البلد الذي يعيش كذبة " الحريات " بامتياز فقد احتل المرتبة 99 فقد سبقته في حرية الاعلام السنغال التي تحتل المرتبة 58، فقد تقدمت علية 41 مرتبة! كما تقدمت عليه دول كثيرة مثل النيجر وتوغو وتنزانيا ومنغوليا وبنين وتيمور الشرقية... ومن المفارقات أن لبنان بلد تكثر فيه الحريّات الشكليّة وتغيب فيه الديموقراطيات الفعلية، فالحياة السياسية تنعدم في غياب الديموقراطية، حيث لا استقرار أو اطمئنان إلى المستقبل في ظل القمع الطائفي، سواء كان قمعًا مباشرًا او مقنَّع، وتبقى الحريّات بدون شك مهددة في ظل الانظمة الدوغمائية والاستبدادية، غير أنّ الديموقراطية تتلازم مع أمور تمس جوهر البناء السياسي ولا يمكن تحيدها منها قانون المحاسبة وتكافؤ الفرص والتمثيل الشعبي الحقيقي في الحكومة وكلّ هذه الامور غائبة حاليًّا في ظل النظام القائم.

أما مصر فحرية الصحافة شبه معدومة، ويحتل الشاشات المصرية اعلاميون يروجون الدعاية للنظام بشكل مستمر ومتواصل فيما السجون ممتلئة بكل من يخطر بباله ان يعارض الأداء السياسي او الاقتصادي المنهار فيما يرزح الشعب تحت خط الفقر، ومعظم القنوات اشبه بشاشات "قمامة " لتسويق ثقافة " الطاعة "، فقد احتلت مصر المرتبة 161 في مؤشر حرية الصحافة وتسبقها راوندا وأثيوبيا!

وهذه بعض النماذج لترتيب بعض الدول العربية والشرق اوسطية لمستوى الحريات : الجزائر في المرتبة 134، فلسطين 135، الأردن 138، العراق 158، مصر 161، ليبيا 163، ايران 165، اليمن 166، الصومال 167، السودان 174، وسوريا 177 يفصلها 3 نقاط عن المرتبة الاخيرة التي تحتلها كوريا الشمالية.

ويعمل هذا التصنيف على قياس حالة حرية الصحافة في 180 بلداً، انطلاقاً من تقييم مدى التعددية واستقلالية وسائل الإعلام واحترام سلامة الصحفيين وحريتهم، علماً أن جدول ترتيب 2017 يأخذ بعين الاعتبار الانتهاكات المرتكبة بين 1 يناير/كانون الثاني و31 ديسمبر/كانون الأول من عام 2016. ويتم احتساب المؤشرات العامة والإقليمية بناء على النتائج المسجلة في مختلف البلدان، علماً أن هذه النتائج تقوم على أساس استبيان معياري بعشرين لغة مختلفة، حيث يشارك خبراء من جميع أنحاء العالم في التحليل النوعي، إذ كلما ارتفع المؤشر، كلما كان الوضع أسوأ. وبفضل انتشاره الواسع، أصبح التصنيف العالمي لحرية الصحافة يمثل أداة أساسية في عملية الدفاع والتأثير على نحو متنامي. 

ختامًا، لا شك ان واقع الحريات الصحفية متدهور لا سيما في دول الاستبداد، والصورة بالفعل قاتمة للغاية، ولكن من حق الشعوب ان تحلم بيوم تشرق فيه الشمس، فالأجيال الصاعدة سئمت من التهميش والفقر حيث نجد معظم شباب اليوم يتجهون للتعبيرعبرالاعلام الجديد، الذي بدوره تعمل المخابرات في بعض الدول على مراقبته واعتقال الناشطين على مواقع التواصل، كما تعمل دول أخرى على قطع شبكة الانترنت عن المستخدمين او التضيق عليهم عبر خدمات اتصال متردية ورفع الكلفة والرسوم على الاشتراكات، في عالم يسير نحو عصر رقمي!