قبل عامين او ثلاثة اعوام كنا نتحدث هاتفيا ، المناضل المعروف عزيز محمد وانا، عن كتابة السير الذاتية السياسية، وذلك بمناسبة تعليقي على كتاب في السيرة لم يعجبني. وقلت في الحديث إنني أنوي كتابة شيء في الموضوع. وها أنني ، وإذ أهم بذلك ، اسمع عن رحيل هذا الصديق الحميم والوفيّ ،الذي قضى حياته في النضال الوطني اليساري وتزعم الحزب الشيوعي سنواتِ طوالاً. وقد افترقنا سنوات ثم التقينا ، ثم افترقنا، حتى عدنا هاتفيا ،هو في كردستان وانا في باريس. وللحديث عنه، علاقة مباشرة بسيرته وسجاياه بالمقارنة مع البعض الاخر في الحركة الشيوعية والحركات السياسية الاخرى. ان من كتّاب السير الذاتية السياسية(واستخدام الصحافة والتلفزيون لذلك) من ينتهزون الفرصة لتصفية الحسابات مع الاخرين، والتملص من الاعتراف بأخطائهم هم. ومنهم من يدينون حزباً كانوا فيه ولا يذكرون عن دورهم شيئاً ، كما فعل ، مثلاً، هاني الفكيكي البعثي في (اوكار الهزيمة) وهذا رغم اهمية كتابه. وقرأت قبل سنوات مذكرات القيادي الشيوعي الراحل رحيم عجينه، فوجدته هادئاً ومنصفا ، رغم ان عدداً من تحليلاته وأرائه قابلة للنقاش. اما مذكرات القياديين السابقين السيد بهاء نوري والمرحوم زكي خيري ، نموذجان لتصفية الحسابات مع الاخرين وتبرئة الذات. والوزير فؤاد عارف في مذكراته لم ينصف الزعيم عبد الكريم قاسم ،كما لا ينصفه كل من يعتبره ديكتاتوراً، مع انه كان يرفض القمع ويسمح بالحريات الحزبية والحريات الصحفية. وعندما كان الشارع اليساري يصيح به (أعدم، أعدم) كان جوابه: اطلبوا مني غير هذا.. اطلبوا بناء جامعة ، بناء مستشفى جديد ، او مصنع.. لكن لا لما تطلبون... اما الراحل العزيز المناضل الكبير عزيز محمد ، فكان نموذجاً للسياسي الذي يرفض الحقد والتجني وله اخلاق عالية ، ويفضل السجال الهادئ وتناسي الخلافات القديمة الساخنة. وحدثني مرة انه يزور قياديين شيوعيين اكراداً سابقين،رغم ان بينهم من راح يتعامل مع عزيز محمد كعدو ويهاجمه ليل نهار.. إنني لا ادري ان كان قد كتب مذكراته ، ولكنني اتمنى لو صدر عنه كتاب موضوعي. وأقول ان شهادة هذا السياسي المتقاعد او ذاك لا تكفي لوحدها كتاريخ دقيق ، وإنما يجب جمع كل الشهادات في التجربة نفسها ومقارنتها واستخلاص ما هو مشترك بينها. وعلى صاحب كل شهادة ان يكون أميناً في سرد الوقائع ودقيقاً في التواريخ، وان يحسب حساباً لاختلاف الظروف والأوضاع لكي لا نخلط الماضي بالحاضر . ان هدف كتابة السير والشهادات السياسية هو استخلاص العبر والدروس لحاضر العمل السياسي ومستقبله.

واخيراً ، حين اقارن جيلنا السياسي السابق وقبله ومن مختلف ألاتجاهاتبالزعامات السياسية العراقية اليوم ، اشعر بالإحباط لان كل شيء رجع الى الوراء. وهناك من يشتمون العلمانية ، ليل نهار مع انها تعني القيم الديمقراطية وحقوق الانسان واحترام الحريات ومنها حريات العقيدة والفكر والنشر. الاجيال السابقة ارتكبت اخطاء فادحة ، حسب درجات كل خطأ،ولكنها قدمت نماذج ممتازة للعمل السياسي الوطني، ورفض الطائفية والعشائرية وهوس الغاء الاخر... وتذكروا مثلاً عبد الفتاح ابراهيم والجادرجي ومحمد حديد وسعد صالح ومحمد رضا الشبيبي ويوسف سلمان وحسين الرضي وعزيز محمد ، وطبعا عبد الكريم قاسم. فكم تبدل الزمن وتبدل الرجال والاحزاب... ومجداً لذكرى عزيز محمد وذكرى سواه من الزعماء السياسيين العراقيين ألراحلين الذين خدموا الشعب والوطن بنكران ذات.

هامش: لم اتطرق هنا الى اوراق مبتذلة لمتطفلين على العمل السياسي ، وقد مسّت بذاءات بعضهم عزيز محمد فلم يكترث لهؤلاء ، الذين كانوا هامشيين فراحوا بعد مضيّ السنين ينسبون لأنفسهم ادواراً مفبركة ويشهرون بالآخرين.