منذ ان خلق الله الانسان على هذه الأرض، ما زالت حقوق الانسان هي المحور الأبرز في التشريعات السماوية وفي الفلسفات الوضعية. ومن الثابت ان حقوق الانسان نفسه قد سبقت نشوء الدولة، لذلك تتميز هذه الحقوق بأنها قاعدة عامة واحدة في أي مكان من المعمورة. وفي هذه العجالة، سوف نتطرق لموضوع المال العام في فكر ودستور الإمام "علي". 

يعتبر الإمام "علي" اول مفكر شرقي أعلن ان الأموال العامة هي أموال الشعب لا أموال الطبقة الحاكمة او طبقات الأشراف، وكان كذلك اول حاكم في الشرق كله يصوغ هذه الحقيقة صيغة تحمل طابع القانون. فالأموال العامة ليست طعمة للولاة بل ملك للناس. والولاة في دستور "علي" ليسوا بالنسبة لهذه الأموال أكثر من خزان الرعية ووكلاء الأمة.

ويذهب الإمام "علي" بعيدا في هذا الشأن، فيرى ان الأموال التي تحت يديه وأيدي عماله ليست له ولا لهم، وإنما هي ما انتجته الجهود العامة إنتاجا مشتركا ليكون من حق الناس جميعا. وهو بهذا اول مفكر شرقي قال قولا صريحا لا يقبل التأويل "بأن الأموال العامة هو أموال الشعب بكامله، ومن ثم فهي حق من حقوق الشعب كله. وعلى ضوء هذا المفهوم ساوى "علي" في العطاء بين الناس لا فرق عنده بين قريب وبعيد ولا شريف ولا وضيع. نظر "علي" في امر الناس، وهم لديه أخوة متساوون متعاونون، فإذا كثيرهم في فقر مريع وإذا قليلهم في غنى فاحش، فقال مخاطبا نفسه: "اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا أو غنيا بدل نعمة الله كفرا".

وفي فكر الإمام "علي"، السابقون من البشر لهم فضل في إنتاج هذا المال، والحاضرون لهم فضل كذلك فيه، وللاحقين من البشر حق به، فجميع الناس هم اهل هذا المال. لذلك بعث الإمام الى بعض عماله يقول: "أما بعد فإن ما بيدك من المال له اهل قبلك وهو صائر الى اهل له بعدك". وإذا اخذنا رأي "علي" في المال بوصفه نتاج جهود عامة مشتركة كمقياس لكل ما تنتجه الجهود العامة المشتركة، نراه قد أدرك القاعدة الأساسية في نتاج الحضارة الإنسانية الذي هو عمل يشترك فيه السابقون واللاحقون والقدامى والمحدثون. وهذا ما عبر عنه بوضوح الفيلسوف الفرنسي "باسكال" حين قال: "انه يجب ان ننظر الى سلسلة البشر خلال عصور التاريخ كأنها رجل واحد يعيش أبدا ويتعلم بدون انقطاع". وأروع من قول "باسكال"، وأوضح منه إظهارا لما بين البشر من تعاون وتكافؤ، قول "علي": "ثم جعل الله حقوقا لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب افتراضها بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض".

من هنا كانت نظرة الإمام "علي" للمجتمع على انه مجتمع لكل ابناءه، وفيهم القادر على العمل والعاجز عنه. أما العاجز كالشيخ والمريض واليتيم ومن في حكمهم، فعلى الدولة ان تكفيه وتيسر له معاشه تيسيرا كريما لا منة فيه ولا إحسان. وفي ذلك يقول "علي" في كتابه الى "مالك الأشتر" بصدد العاجزين عن العمل: "واجعل لهم قسما من بيت المال وقسما من الغلات في كل بلد، فإن الذي للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكل قد استرعيت حقه". ولما كان لهؤلاء نصيب من الأموال العامة هو حق لهم لا منة من أحد عليهم، ولما كانت هذه الأموال في أمانة الدولة، فعلى الدولة نفسها ان تبحث عنهم وتصل إليهم بحاجتهم من المال لأن عمل الدولة هو ان تحمي الناس وترفع عنهم العوز مبادرة منها لا استجابة لمسألة من معوز. وفي ذلك يقول الإمام "علي": "وتفقد أمور من لا يصل اليك منهم، فإن هؤلاء الرعية احوج الى الانصاف من غيرهم".

وبناء على الحقيقة الكونية التي أدركها "علي"، وهي اشتراك سلسلة البشر في انتاج ما تحت أيدي البشر، وحق كل الناس في هذا الإنتاج، كانت نظرة "علي" تلف المجتمع على انه مجتمع انساني لا عنصري، لهذا ساوى بين العرب والأعاجم في العطاء فكانوا لديه سواء. ولما جاءه ناصح له يعاتبه على هذه التسوية في العطاء ويجعلها عليه مأخذا، قائلا: "يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والأعاجم". أجابه الإمام بقوة وهدوء وثقة: "أتأمرونني ان اطلب النصر بالجور".

منذ انتهاء خلافة "علي" باغتياله في شهر رمضان سنة 40 هجرية وحتى يومنا هذا، أصبح المال العام (في اغلب بلدان العالمين العربي والإسلامي) مستباح ولا حرمة له، وان الثروة الفاحشة متكدسة في أيدي القلة تصرفها على ملذاتها وشهواتها، بينما أكثرية الشعوب تعاني الفقر والعوز، ولا يوجد خط فاصل بين المال العام والمال الخاص.
المصدر: الإمام علي صوت العدالة الإنسانية. "جورج جرداق".