باسثناء من احتموا بأحزاب ومنظمات، أو ركبوا أمواجها العاتية، أو انقلبوا على ماضيهم ليتحوّلوا إلى أبواق صادحة لها، يمكن القول إن أكبر الخاسرين في "ثورة الحرية والكرامة" التي أطاحت بنظام بن علي في الرابع عشر من شهر جانفي-يناير 2011، هم المثقفون المعروفون باستقلاليتهم، و بحرصهم على أن تظلّ أعمالهم الأدبية أو الفنية أو الفكرية هي الناطقة باسمهم، و ومن خلالها هم يعبرون عن واقع بلادهم، ويصيغون آراءهم في ما يجري من أحداث. ومنذ البداية، بدا واضحا أن أغلب من اكتسحوا المشهد السياسي والإعلامي عقب السقوط المدوي للنظام، يظهرون نفورا من المثقفين. لذا لم يتردّدوا في إعلان الحرب عليهم. فقد قامت الفرق السلفية بالهجوم على معارض للرسم، وعلى حفلات فنية، وعلى ندوات فكرية لتعتدي بالعنف الشديد على المشرفين عليها،أو المشاركين فيها. وفي بن قردان ، على الحدود مع ليبيا، رفض قائد؟ "إمارة" سلفية التحدث إلى المخرجة السينمائية سلمى بكار ناعتا إيّاها بنعوت قبيحة. ووصف أحد الاسلاميين النخبة المثقفة ب"المصيبة". وتهجم المنصف بن سالم ، الذي كان وزيرا للتعليم العالي في حكومة "الترويكا" بشدة على جماعة " تحت السور"، و هي جماعة كان لها الفضل في بعث أول حركة أدبية حداثية كان لها دور أساسي في تطوير الثقافة التونسية في أغلب مجالاىتها، خصوصا في الشعر وفي القصة، واصفا رموزها من أمثال علي الدوعاجي، ومحمد العريبي ب"الكحوليين الفاسقين". وفي مدينة الحامة، مسقط رأسه، قام مجهولون بمحاولة تخريب لتمثال المفكر الإصلاحي الطاهر الحداد الذي كان أول من أطلق في الثلاثينات من القرن الماضي، دعوة لتحرير المرأة التونسية من القيود ومن التقاليد البالية. وعندما كان رئيسا مؤقتا، قام محمد المنصف المرزوقي بإصدار كتابا" أسود" يحاكم فيه أعدادا كبيرة من المثقفين والفنانين والمفكرين بدعوى أنهم كانوا من المتعاونين مع النظام المنهار. ولكي تثبت نفورها من المثقفين، قامت حكومة الترويكا بتخفيض ميزانية وزارة الثقافة لفائدة وزراة الشؤون الدينية. ولم تكن الحركات اليسارية مختلفة عن الحركات الأصولية والسلفية في رؤيتها للثقافة والمثقفين. وربما يعود ذلك إلى تشبثها بما سمي في الثلاثينات من القرن الماضي ب"الواقعية الإشتراكية". تلك الوافعية الجافة والسطحيّة التي تقسّم العالم إلى أبيض وأسود، والثقافة إلى ثقافة "في خدمة الشعب"، وثقافة "معادية له ولمصالحه”. كما على المثقف أن يكون "ملتزما بقضايا الشعب". ومثل هذه النظرة إلى "الإلتزام" تخرج من عالم المثقفين كلّ من يتمرّد على هذه القاعدة الضيقة التي إعتماداعليها، أعدم ستالين الكثير من الشعراء والكتاب والمفكرين،أو أرسلهم إلى محتشدات سيبيريا. وهذا ما فعله أيضا الزعيم الصيني ماوتسي تونغ خلال "الثورة الثقافية" السيئة الذكر. لذلك وجدالمثقفون التونسيون المستقلون أنفسهم بعد سقوط نظام بن علي بين نارين: نار الأصوليين والسلفيين من جانب، ونار الدوغمائيين اليساريين من جانب آخر.
وعلى مدى السنوات الست الماضية، ظلّ المثقفون المستقلون يعانون من التهميش، ومن الإقصاء. كما ظلوا مبعدين عن المشاركة في الجدل الدائر حول مختلف القضايا المتصلة بحاضر البلاد ومستقبلها. ولا يزال هذا الإستبعاد قائم الذات في هذه الفترة العصيبة التي تشهد فيها تونس اضطرابات وإنتفاضات عشوائية خطيرة، ونزعات قبلية وعشائرية، قد تعصف باستقرار البلاد ، وأمنها. ويبدو هذا واضحا جليّا من خلال إحجام القنوات والإذاعات عن دعوتهم إلى برامجها، مفضلة عليهم مُروّجي الخطابات الشعبوية والديماغوجية التي ترضي أحزابا ومنظمات معروفة بشططها، وتطرفها، ونزعاتها الهدامة، ورغبتها في أن تظلّ البلاد على كفّ عفريت! لذلك لم يعد من الغريب في شيء أن ترى نفس الوجوه في هذا البرنامج أو ذاك ، وفي اليوم ذاته. فلكأن هذه الوجوه هي الوحيدة القادرة على المشاركة في الجدل السياسي. ولكأنها الوحيدة التي بإمكانها أن تفحص واقع البلاد في الحاضر وفي المستقبل. ويعلم المشرفون على القنوات التلفزيونية وعلى المحطات الإذاعية أن التونسيين ملوا هذه الوجوه ، وهذه الأفواه الواسعة التي تعذبها على مدار الساعة بخطب مسمومة، منتفخة بالأحقاد، وبالديماغوجية القاتلة، وبالإيديولوجيات الهدامة المحرضة على إشعال الفتن، وعلى المزيد من الخراب. مع ذلك، هي تواصل تأثيث برامجها بنفس هذه الوجوه! وهذا دليل رعلى أن هدفها من كلّ هذا هو إرضاء أحزاب ومنظمات تسعى إلى"صوملة" البلاد، وإلى تحطيم الدولة المركزية. وقد تعالت بين وقت وآ خر أصوات مثقفين مستقلين تدعو إلى التهدئة، وإلى حوار بناء ومفيد لإنقاذ اليلاد من المخاطر الجسيمة التي تتهددها، إلاّ أن هذه الأصوات بقيت منحصرة في دوائر ضيقة بسبب إنعدام الوسائل التي تسمح لها ببلوغ الجمهور العريض. فإذا ما نجح واحد من هذه الأصوات في إختراق الحصار، فإنه سرعان ما يتمّ إسكاته، والتعتيم عليه. وما دام المثقفون المستقلون محكوم عليهم بالصمت، وبالإكتفاء بالتفرج على ما يحدث في البلاد من أحداث خطيرة، ومن مآس، ومن هزّات، ومن عواصف عاتية، فإن "ثورة الحرية والكرامة" سوف نظل بلا مدلول، وبلا مفعول، شأنها في ذلك كلّ الثورات التي أطاحت بأنظمة فاسدة لتأتي بأنظمة أكثر منها فسادا واستبدادا.