أبشع الأوطان تلك التي تُمهَر سجونها بعبارة " مات تحت التعذيب " ، بهذه الكلمات علّق أحد الناشطين على إعلان الجيش اللبناني بالأمس عن موت 4 سوريين محتجزين لديه بعد إعتقالهم خلالمداهمات لمخيمات اللاجئين في عرسال ، وفيما قال بيان الجيش أن " أسباب الوفاة صحيّة " أظهرت هذه الحادثة وما رافقها من تعليقات وحملات متضاربة على وسائل التواصل الإجتماعي ومن تداولات في الحكومة مدى الإنقسام اللبناني في التعامل مع هذا الخبر الصادم ومع قضيّة النزوح واللجوء السوري بشكل عام بإعتبارها قضية تلامس جذور الوجود والهوية في بلد هش التكوين دائم الإضطراب سريع الإشتعال .

لكن لحكاية " التغريبة السوريّة " فصولاً ضاربة في أرض طالما دفع شعبها ضريبة موقعها الجغرافي والتاريخي ، فكيف وقد إجتمع عليه بفعل الحرب تحالف خفي من شياطين الطائفية والعنصرية والتطرف والإرهاب ومكر السياسات الدولية وإستغلال إقتصادي وإجتماعي فاضح وصريح .

فاضت صفحات حياة ملايين النازحين بمرارة أيام كَتَب سطورَها الوجع ومشاعر الرعب وصور أشلاء الجثث ، فهل من يرتقي في معالجة هذه القضيّة إلى مستوى المسؤوليّة السياسية والإنسانيّة فيُطوّق الحرائق ويُداوي هذا الجرح النازف سيّما وأن الحرب السوريّة قد كشفت عن بئر سحيق من الأزمات لا يُرى له قعراً في المدى المنظور .

الفشل في وضع أزمة النزوح في لبنان على سكّة الحل مردّه الفلتان الطبيعي الموروث في هذا البلد وكذلك الضعف البنيوي والمادي في قدرات وهامش تحرّك الأطراف الأربعة الرئيسيّة ، الدولة بكافة أجهزتها ، والهيئات الدولية ومعها مئات الجمعيات الناشئة في كنفها ، والبيئة المستضيفة ، والنازحين أنفسهم ، يصب هذا الواقع المتروك لقَدره الزيتَ على النار ويزيد من حالة الإرباك والتوتر ومشاعر الرفض والعنصريّة إتجاه فئات واسعة من النازحين ما يجعل منهم " مكسر عصا " وعرضة دائمة لأي إعتداء أو إستغلال ، ويشجع بعضهم على الإنخراط في أعمال خارجة عن القانون .

تبقى الدولة هي الناظم الأوّل والمسؤولة ضمن أراضيها عن هذه القضيّة الشائكة ، علماً أن إقتصاداً موازياً قد نشأ في لبنان جرّاء النزوح الذي ناهز المليون ونصف مليون سوري ، هذا " الإقتصاد " محمي من أطراف في الدولة نتيجة التركيبة الطائفيّة التحاصصيّة القائمة ، وقد برزت طبقة من الأثرياء الجدد وشرائح واسعة من المجموعات والأفراد عملت على تكريس الإستقطاب والبناء عليه ،هؤلاء قدّموا الإستفادة المالية المباشرة من ملف النازحين على أي إعتبار آخر ، ولهم مصلحة بالغة في إستمرار الصراع إلى أمد بعيد .

على المستوى السياسي ، مَثّلَ ملف النزوح السوري نقطة تحوّلمفصليّة في المنطقة ، وأسهمت الطبيعة الطائفية المتزايدة للصراعفي تفكيك فكرة الدولة الوطنية التي تقوم على التنوّع المجتمعي ، هذا ما عزّز التوجهات نحو " العسكرة "في المجتمعات العربية بناءاًعلى الهـويات الأُحادية العرقيّة والمذهبيّة ، وفي غياب سياسات فعّالةلتدارك آثار هذه الأزمة ، ستكون لهذه التطوّرات انعكاسات أكثر عمقاً على الاستقرار الإقليمي والدولي ، وقد بدأت معالمها بالظهور في كل مكان .

ويشير حجم التهجير القسري، إلى ما تسعى إليه أطراف الصراعالمختلفة من إعادة تشكيل جغرافية الدول وضمان السيطرة علىالأراضي باستهداف الأفراد والمجتمعات على أساس الهوية في مايرقى إلى أعمال تطهير عرقي .

في هذا السياق ، ثمّة خوف عارم في لبنان من أن السوريين، السنّةفي غالبيتهم، سوف يخلّون بالتوازن الطائفي الدقيق القائم فيالبلاد، ما يثير مخاوف على هوية المكونات والطوائف .

ربّما هذا بالتحديد ما دفع إلى التشدّد في سياسات اللجوء،وتحوّلت سياسة الباب المفتوح التي تم تبنّيها عند اندلاع الأزمة إلىأجندة أمنية أضيق أفقاً، فقد أيقظ تدفّق اللاجئين السوريين شياطينالطائفية في الذات اللبنانية، وبدا للكثيرين أن هذا النوع من الأزمات لديه كل القدرة على تدمير الركيزة الأساسية لنظام الحكموالنظام الاجتماعي السائد .

أكثر من 50 في المئة من النازحين- اللاجئين هم دون الثامنة عشرةمن العمر ، ويعتبر هذا الواقع _ بكل المقاييس _ ثقل غير مسبوق بالنسبة لبلد بحجم لبنان .

إلا أنّ إعتماد البعض " اللغة الحربيّة " في حديثه عن النازحين ، " قنبلة موقوتة " حيناً ، " ولغماً " حيناً آخر ، إضافة إلى إستسهال وصمهم بالإرهاب والداعشيّة لا يمكن أن يدلّ إلاّ على خفّة وضيق أفق يجافي الحد الأدنى من الحقائق والمسؤوليّة الوطنيّة .

يجمع المراقبون على توصيف الحياة اليوميّة للاجيء السوريبالسوداويّة ، فهو مُعرّض لسوء المعاملة من قبل أكثر من طرف ، ومن خوف دائم من الإعتقال لدواعي مختلفة ، ومن حرمان أطفاله الرعاية الصحيّة والتعليمية ، ويعاني الكثيرين من محدودية فرص العمل و الموارد ، الحصار المُحكم هذا يجبر عددا غير قليل على اتخاذ خيارات يمكن أن تلحق الضرر بمستقبلهم، بما في ذلكالتورّط في أنشطة غير مشروعة مثل تجارة المخدرات والاتجاربالجنس وغير ذلك .

لا مفرّ من ضبط ومعالجة أزمة النازحين ، كضرورة سياسيةوتنموية ، هناك جوانب يمكن تحقيق تقدم سريع فيها ، فالتركيز على التعليم يعتبر أولويّة قصوى في هذه المرحلة ، ويستدعي تضافر الجهود لتدارك النقص الفاضح في التمويلاللازم لتعليم الملايين من الأطفال في المنطقة، ذلك أن إبقاءهمفي المدارس يوفّر لهم الأسس الضرورية لمستقبل أفضلويجعلهم أقلّ عرضة إلى التجنيد من جانب التنظيمات المتطرّفة ويحد من إنزلاقهم في محظورات تهدد السلامة العامّة .

الموضوع لا شك شائك ومعقّد ويحتاج إلى دراسات وإستطلاعات وعمليات رصد دائمة وجهوزيّة أمنيّة إلاّ أن تغليب العنصر الإنساني على السياسي من شأنه أن يوفر الكثير من الحلول .

ذَكرَ أحد الصحافيين أنّ طفلاً سورياً مات منذ عدة أيام نتيجةحريق مخيم اللاجئين في بلدة قب الياس البقاعيّة ، لم يجد قبراً يضمّه ، لكنّه وجد أماً لبنانيّة توفي ابنها قبل عام ، ضمّته إليه .

إجتمع الطفلان في قبر واحد.

كاتب وصحافي لبناني

[email protected]