تَجري " بروفات " تحضيريّة بين الحين والآخر ، من " الأعمال الخيريّة " التي يتبرّع بها حزب الله في جرود عرسال رغماً عن إرادة الأهالي هناك ، إلى التوترات الأمنيّة داخل المخيمات الفلسطينيّة المسلّحة والمُنتشرة على كامل المناطق اللبنانيّة ، إلى تزايد العنصريّة ومشاعر الكراهيّة ضد النازحين السوريين على خلفيّة مذهبيّة ، إلى محاولة حزب الله إظهار تماهي مُصطنع مع المؤسسة العسكريّة وإستدراجها إلى مواقف لا تحظى بإجماع وطني لتبرير تجاوزه كافة مؤسسات الدولة وتدخله في الحرب السوريّة وتورطه في سفك دم الشعب السوري ، يتزامن هذا مع توالي التطورات في المشهد الإقليمي وإنجاز الولايات المتحدة الأميركيّة تفاهمات بعيدة المدى مع الروس لتثبيت مناطق نفوذ في سوريا وحسر الأزمة تدريجياً ، ومع إتجاه دولي وإقليمي لتقليم أضافر إيران في المنطقة وتطويق ميليشياتها ، ومع حدّة الفرز الحاصل لبنانياً وعمق حيثيّات النزاع الذي قد يشتعل في أي لحظة ، ومع تسليط الضوء الإقليمي والدولي على لبنان بإعتباره خاضعاً للوصاية الإيرانيّة بواسطة حزب الله ، لم يعد مستبعداً إندلاع الحريق الكبير .

لم تتوجّه طائرة الرئيس الأميركي دونالد ترمب _ صدفةً _ من قاعدة أندروز الجوية إلى العاصمة السعوديّة الرياض في أول زيارة خارجيّة له ، فوُجهتها هذه دلّت على بوصلة السياسة الخارجيّة الأميركيّة في المنطقة مع الإدارة الجديدة ، وعلى قرار هذه الإدارة بتفعيل العمل المباشر مع حلفائها الإستراتيجيين بهدف تحقيق إختراقات جوهريّة لجهة مكافحة الإرهاب والسلام العربي الإسرائيلي

إيقاع سياسي متسارع رافق تلك الزيارة وتلاها ، بدءاً من إعلان الرياض لتحالف أميركي – عربي إسلامي لمكافحة الإرهاب ، ثم إندلاع " الأزمة القطريّة " على نحوٍ مفاجيء ، ومبايعة الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد في السعوديّة ، وتقدّم الجيش العراقي لتحقيق الإنتصار فعلى تنظيم داعش في الموصل بالتزامن مع التطور الإيجابي للعلاقات العراقيّة – السعوديّة ، والتفاهمات الأميركيّة –الروسيّة المستجدة على الساحة السوريّة وإعلان الإتفاق المشترك على " منطقة آمنة " في جنوب غربي سورية وإخراج إيران وميليشياتها منها وإبعادها عن الحدود مع الأردن والجولان المحتل من قبل إسرائيل وعن محافظات درعا ومعظم القنيطرة والسويداء ، وكانت القوات الأميركيّة قد نشرت صواريخ متطورة في قاعدتها العسكريّة قرب معبر التنف الحدودي مع العراق وأبعدت الإيرانيين وميليشياتهم عن الحدود السوريّة – العراقيّة والمثلث الأردني العراقي السوري ، وكذلك أبعدت القوات الأميركية الميليشيات التابعة لإيران عن البادية السوريّة التي تمتد إلى تدمر ودير الزور والرقّة .

لبنان وِفق هذه المعطيات الجديدة دخل دائرة الخطر ، نظراً لتورط حزب الله المتمادي في الحرب السوريّة ولدوره الأمني والعسكري كذراع لإيران في التآمر وتهديد أمن وإستقرار دول الإقليم ، ومع إتجاه الحرب السوريّة إلى الإنحسار رغم غياب أفق الحل السياسي في المدى المنظور ، يزداد هامش المناورة لدى اللاعبين الكبار وتزداد إحتمالات توافق أطراف أساسيّة في الحرب السوريّة على نقل الصراع المسلّح من بعض الأراضي السوريّة إلى بعض الأراضي اللبنانيّة .

ما يُعزّز حظوظ هذا السيناريو هو أنه لا مصلحة لإيران وميليشياتها في إنتهاء الحرب السوريّة ، فسياستها الخارجيّة قائمة على نشر الفوضى والإنفلات الأمني في الأقطار المجاورة ، بل إن وظيفة النظام الإيراني الرئيسيّة تصدير الأزمات ضماناً لنفوذ ما أو هروباً من فشل كبير في تحقيق التنمية المُستحقّة للشعب الإيراني .

على الصعيد السياسي الداخلي ، تشكّلت الحكومة الحالية وفق مبدأ " ربط النزاع " وتحييد الملفات الخلافيّة الأساسيّة بهدف تسيير عجلة الدولة ، بإعتبار أن حل القضايا الإستراتيجيّة المتمثلة بالخلاف العامودي حول سلاح حزب الله وتدخله العسكري في سورية هو قرار إقليمي ودولي ، لكن ماذا لو أَزِفَت ساعة الحساب وعاد هذا الملف إلى الواجهة من جديد ؟

إن مقتضيات مكافحة الإرهاب وتحريك ملف السلام العربي –الإسرائيلي يُعيد وضع لبنان في عين العاصفة ، إذ لا يمكن إحراز تقدّم على هذه المسارات دون البت النهائي بملفات رئيسيّة ثلاث بالغة التعقيد : اللاجيء الفلسطيني – النازح السوري – سلاح حزب الله .

الوضع العام في لبنان لا يمكن أن يبقى معلّقاً إلى أمد بعيد ،ممالأة بعض القوى لحزب الله على حساب الدستور والمؤسسات تُضعف ثقة اللبنانيين _المُهتزّة أساساً_ بدولتهم و تتحوّل إلى خطر يُهدد الكيان برمّته ، حياد الموقف الرسمي في قضايا تمس الأمن القومي لدول عربية يضع البلد في خانةٍ مُلتبسة ويَجر عليه أثماناً باهظة ، المؤشرات الأمنيّة والإقتصاديّة رغم الجهود المبذولة للحد من تداعيات الأزمات المتلاحقة تبقى غير مطمئنة ، كما لا يمكن الرهان في ظل التركيبة الحالية على دعم مالي خارجي ولا على آمال البعض بدور رئيسي قد يُناط _ لوجستياً _ بلبنان في إعادة إعمار سورية .

وما يستوجب التوقّف عنده هو التقاطعات والمؤشرات الدولية والإقليمية والداخليّة التي تجمّعت في الآونة الأخيرة وتُشير بمجملها إلى سحابة سوداء توشك أن تُعم سماء لبنان : 

_ ما نقله مصدر ديبلوماسي غربي رفيع المستوى من أن الأميركيين قادرين على إستهداف حزب الله في سوريا ولبنان بكل الوسائل المتاحة ، ويعرفون مكان كل صاروخ يملكه ولدى صدور ورقته فسيتم تدميره خلال 5 دقائق . 

_ إمكانيّة قيام الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنتيامين نتنياهو وأطراف أخرى بتوجيه ضربة قاسية لأذرع إيران –ومنها حزب الله – لتسريع إنفاذ وتثبيت التوازنات الجديدة بناءاً على التغيرات الإستراتيجيّة التي يجري إحلالها في المنطقة . 

_ دخول الحرب السوريّة في دوّامة الإنحسار وعودة التفكير بلبنان كحديقة خلفيّة للعبة الصراع أو كصندوق بريد بين الأطراف . 

_ تغيّر الإستراتيجيّة الإسرائيليّة إتجاه لبنان ، وإنتقال إسرائيل إلى إعتبار البنية الأساسية للدولة اللبنانية والجيش اللبناني، والبنيةالخاصة بحزب الله، منظومة واحدة، وأن ضربها يشكل أداة ضغطهائلة من شأنها أن تحمل أثرًا كبيرًا في الصراع المقبل ، حالاندلاعه . 

_ القرار الخليجي بمواجهة مباشرة مع حزب الله بكل الوسائل بعد ثبوت تورطه المباشر في تدريب إرهابيين وتخطيط وتنفيذ عمليات إرهابية وأعمال تجسسيّة في أكثر من دولة منها الكويت والبحرين والسعوديّة واليمن .

_ الإنقسام اللبناني الرسمي والشعبي في ملف النزوح السوري ، بين فريق يدعو لحله بالتنسيق مع الأمم المتحدة وآخر يدعو إلى حلّه بالتنسيق مع النظام السوري . 

_ تربّص القوى السياسيّة بعضها ببعض ، ورهانها الضمني على حرب تقود إلى تسليم كل السلاح الخارج عن سيطرة الدولة و تُنتج معادلات جديدة .

_ تحريك ملف اللجوء الفلسطيني بحال بروز تقدّم في عمليّة السلام ومحاولة فرض واقع جديد داخل لبنان . 

_ إستلهام معظم القوى السياسيّة في لبنان " التجربة الكرديّة " التي يوشك أن يتَحقق حلمها التاريخي في كيان مستقل في العراق وحكم ذاتي في شمال سورية ، ما يُحرّك هذه القوى إلى الدّفع بإتجاه إستثمار اللحظة للمطالبة _ على الأقل _ بلا مركزيّة موسّعة تُطمئن الطوائف الرئيسيّة . 

_ وصول دول كبرى إلى قناعة مفادها إستحالة إنجاز أي تسوية سياسية في ظل التوازنات الحالية ودون كسر شوكة حزب الله لا أفق لقيام دولة لبنانية ، متصالحة مع محيطها وجزء لا يتجزأ من العالم الحر .

إلى هذا يُجمع مراقبون على طبيعة التركيبة السياسيّة والإجتماعيّة الهشّة في لبنان ، والتي تتغلب فيها مصالح الطوائف على مصالح الوطن ، وأن تماسك الوضع الداخلي ما كان ليكون لولا الإرادة الدوليّة بذلك ، تلك الإرادة كانت مستندة إلى عدّة إعتبارات منها عدم الحاجة أو الجدوى من إندلاع حريق صغير في ظل وجود حريق هائل كبير في سوريا ، ومنها أن موقع لبنان يمنحه وظيفة لوجيستيّة في إمداد الداخل السوري بالتجهيزات والمواد المختلفة بما فيها السلاح ، ومنها كذلك إستيعاب تداعيات الحرب السورية وإستقباله لمليون ونصف نازح ما يخفف عبئا كبيرا على المجتمع الدولي .

 يستعد لبنان لمواجهة حقيقة دوليّة واضحة في وقت غير بعيد ، حقيقة مفادها أنه لا مستقبل له في ظل إزدواجيّة الدولة والدويلة ، الجيش والميليشيا ، وأن شرعيّة النظام مهدّدة إذا إستمرّت هيمنة حزب الله على القرار السياسي والأمني ، وأنه لا يمكن السكوت بعد اليوم على تحوّلِه إلى بؤرة تنطلق منها العمليات التي تهدد أمن وإستقرار عدة دول عربيّة ، سيتحتّم على اللبنانيين وعلى مرجعياتهم السياسيّة وأجهزتهم الأمنيّة التعامل مع هذا التحدّي الجديد ، فهل تسبق التسوية الحرب ، وهل تنتصر السياسة على الدم ؟ 

تجارب الماضي لا تبشّر بخير .