منذ القرن السابع عشر تمنّى الفيلسوف الهولندي الشهير " اسبينوزا " مرةً في مقولته الشهيرة " ليت العلوم البحتة والتجريبية والفيزيقية كلها تكون مثل الموسيقى مؤنسة وجاذبة وتروق لها الأهواء وتشتهي سماعها الارواح العطشى وتكون صديقة للنفس ليسهل استساغتها وهضمها " .

تذكرني هذه المقولة بالمساعي الحثيثة والمحاولات الدؤوبة التي بذلتْها بلدية مدينة نيويورك قبل بضع سنوات لأحياء الاشجار التي بدأت تتلاشى وتموت تدريجيا في شوارع هذه المدينة الفسيحة المثقلة بالبنايات الشاهقة وغابات الاسمنت العالية وناطحات السحاب المحشوّة بالحديد وقوالب الكونكريت ومستلزمات البناء، اذ تم تجريب كل الطرق لتسميد هذه النباتات بكل انواع الاسمدة العضوية والكيميائية المنتقاة بطريقة علمية مختبرية والعناية بها بالماء الرائق والتشذيب وإغناء التربة بالعناصر اللازمة لإنمائها وإبقائها حيّة وتعريضها لضوء الشمس لكنها تأبى الحياة وتفضّل ان تموت واقفة وسط تلك الأبنية العالية والخرسانات العملاقة، وقد جهد علماء النبات وخبراء البلدية على إطالة حياتها وبعث اخضرارها ولكن دون جدوى .

أخيرا وبعد يأسٍ مرير اقترح احد المختصين علاجا أكّد انه من تجاربه المبتكرة حيث أوصى بإسماع هذه الاشجار الموسيقى بشكل مستمر، وفعلا تم توزيع اجهزة الصوت قرب منابت الشجر ؛ فبدأت السيمفونيات الكلاسية ومقاطع السوناتات والكونشيرتو وغيرها تصدح لتؤانس الشجر والبشر العابر والقاصد ليرى تلك التجارب عن كثب لكن الحال بقي على ماهو عليه بالرغم من المحاولات الاخرى لتبديل نمط العزف الموسيقي الى أغاني الجاز والبوب الأحدث لكن الأمل في احيائها لم يتحقق حتى كاد اليأس يدبّ في نفوسهم .

وفي مسعىً اخير اقترح خبير أميركي متمرس من أصول هنديّة في علم النبات والأحياء ان يُسمع الاشجار بعضا من موسيقى " الراكا " الهندية الكلاسية ذات التقاليد الرصينة في قواعدها والتي تتشابه الى حد ما بصرامة وثوابت المقامات العراقية في الغناء والموسيقى وكم كانت النتائج مذهلة ؛ اذ بدأت في غضون ايام قليلة بالاخضرار والنماء بصورة اسرع بكثير من قريناتها الاشجار النابتة حتى في الغابات الاستوائية والبعيدة عن المدن المكتظّة .

وأخيرا أثمر جهد الخبراء في العلاج بالموسيقى شرط ان تكون معزوفاتها منتخبة بدراية تامة إذ لم يعد خافيا على احد دور الموسيقى الراقية وحدها على بلسمة الروح البشرية وتنقيحها من الشوائب وكذا الامر بالنسبة للكائنات الحيّة الحيوانية والنباتية ممن تشاركنا العيش في هذا العالم .

ومثلما يعمل التيار الكهربائي على تكوين دوائر كهرومغناطيسية لإنتاج ونشر الضوء فان الموسيقى الراقية ذات الصفاء والنقاء الهارموني المتميز تحذو حذو الدائرة الكهربائية فتولّد دائرة موسيقية ذات مغناطيسية جاذبة لكل مايحيط بها وتستطيع مخاطبة الاحاسيس في الكائن الحيّ أيّا كان بما في ذلك الشجر والزرع والتي بدورها تعمل على ترميم وتنقيح العصب الحسّاس والمشاعر النائمة او الكسولة لتنشيطها وإنمائها لتعيش الحياة .

يقيناً ان الصوت الساحر الشجيّ المائز عقار شافٍ يبثّ الحياة للمخلوقات الانسانية والحيوانية والنباتية ايضا ؛ على العكس من الصوت الناشز فهو سقام قاتل أولهُ رعب مثل عواء الذئاب وزئير الأسُود وفحيح الأفاعي وآخره موت محقق للمشاعر والاحاسيس قبل هلاك الجسد وفناء الشخوص .

[email protected]