بالرغم من أنني كنت قد شرحت مطولا كل ما يمت للعولمة بصلة في كتابي "جديد الإقتصاد السياسي" (2004) إلا أن الكتاب لم يحظ بما يستحق من القراءة رغم أن جامعات عديدة ضمته إلى مكتباتها وذلك لأن السلطات المحلية رفضت إجازته للطباعة. واقتصر الإعلان عن أهمية الكتاب على نشره على النت قبل اثني عشر عاما. الكتاب عظيم الأهمية طالما أنه يبحث في مسائل مستجدة في الإقتصاد السياسي لم تتواجد في عصر ماركس وما كان لماركس أو للينين أن يتنبآ بها، ولذلك توجب على أساتذة الإقتصاد في مختلف الجامعات تدريس جديد الإقتصاد السياسي لطلبتهم بجانب "رأس المال" لكارل ماركس.

ما زال كَتَبة البورجوازية الوضيعة والشيوعيون المفلسون يؤكدون على أن العولمة (Globalization) إنما هي مرحلة جديدة من مراحل تطور النظام الرأسمالي مخالفين بذلك لينين الذي كتب في "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية". طبعاً العولمة التي يكتب فيها كتبة البورجوازية الوضيعة والشيوعيون المفلسون ليست هي العولمة أو العالمية (Universality) التي قال بها ماركس وكان قد رأى النظام الرأسمالي أول نظام عالمي يأخذ به الإنسان للإنتاج حيث يتشكل العالم، كل العالم، من وحدتين متكاملتين، وحدة تنتج فائض القيمة ووحدة مكملة تستهلك فائض القيمة، الوحدة الأولى هي مراكز النظام الرأسمالي والوحدة الثانية هي الدول المستعمرة والتابعة. العولمة التي يتحدث فيها هؤلاء القوم المفلسون هي انحلال هاتين الوحدتين المتكاملتين وتحولهما إلى وحدة واحدة في نسق واحد بلا مراكز ولا أطراف، جميعها دول رأسمالية. وفات هؤلاء القوم البلهاء أو ربما الخبثاء أنه طالما أن جميع الدول تنتج فائض القيمة فكيف يمكن تصريف هذا الفائض وهو الذي رآه ماركس الإخراج (Output) القاتل إن لم يتم تصريفه للخارج (Offshore)!؟

البورجوازية الوضيعة التي وصفها "البيان الشيوعي" على أنها الطبقة الرجعية دائماً وأبداً هي أيضاً الطبقة التي تتميز بالمكر والخداع المتأصلان فيها وفي وسيلتها الخاصة للإنتاج وقد رسا إليها الشيوعيون المفلسون جراء انهيار المعسكر الاشتراكي، هذه الطبقة التي استطاعت جراء سيطرتها على الحزب الشيوعي السوفياتي بقيادة خروشتشوف إثرَ إغتيالها ستالين بالسم في العام 1953، إستطاعت أن ترتد على الإشتراكية، وأن تحرف التاريخ وتأخذه إلى مجاهل مظلمة يغيب عنها نجم الشمال حيث تمكر في القول على أن العالم قد غدا أملس متساوي السطح بلا مراكز ولا أطراف وهو ما يعني عالما طهورا خال من كل التناقضات ولن يتطور إلى غير ما هو عليه الآن مثلما ترجمه فرانسس فوكوياما بنهاية التاريخ.

نحن الماركسيين نقرأ التاريخ قراءة علمية موضوعية لا يفوت عليها المكر البورجوازي الوضيع المخادع. كان الرأسماليون الإمبرياليون في العام 1948 قد تحققوا من أن حركة التحرر الوطني العالمية التي ترتبت على نتائج الحرب العالمية ستسد الطريق أمام تجارتهم فنادوا إلى عقد الإتفاقية العامة للتعرفة والتجارة (GATT) التي تضمن وصول فائض الإنتاج المتحقق في مراكز الرأسمالية إلى مختلف الأطراف حتى بعد الاستقلال فلا تقيم الدول المستقلة حواجز جمركية في سعيها لبناء إقتصاد وطني مستقل. القوى الوطنية الثورية وقد امتلكت كل السلطة في الدولة المستقلة تأخذ على عاتقها بناء اقتصاد مستقل يعمل لصالحها ولذلك فهي لا تستطيع أن تسمح بعبور فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية حدودها الدولية.

ماذا كانت تعني حركة التحرر الوطني العالمية التي شغلت المسرح الدولي طيلة ربع قرن 1946 - 1972؟ الرفض الأول للإمبريالية تمثل في رفض استقبال فائض الإنتاج المتحقق بالضرورة في المراكز الرأسمالية وهو ما عطل نهائيا أهداف الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة (GATT) التي استهدفت الحفاظ على النظام الإمبريالي حتى بعد فك ارتباط الأطراف بمراكز الرأسمالية!! طبعاً كان الفشل التام لاتفاقية (الغات) التي أضمرت ذات الأهداف للعولمة التي يتحدث عنها اقتصاديو البورجوازية الوضيعة والشيوعيون المفلسون.

ما يجدر ذكره في هذا المقام تحديداً هو أن فرنسا وبريطانيا لم تعانيا كثيراً من فائض الإنتاج فيما بعد الحرب وتفكيكهما كإمبراطوريتين استعماريتين، وأن الولايات المتحدة فيما بعد الحرب إنخرطت بحماقة في سياسة مقاومة الشيوعية وهو ما كلفها نقل نمط الإنتاج الرأسمالي إلى الأطراف في كوريدورات الرياح العاصفة للثورة الشيوعية في شرق آسيا وبات الشعب الأمريكي يستهلك فائض الإنتاج من شرق آسيا ولا ينتجه، وهذا بحد ذاته يعني مباشرة أن النظام الرأسمالي لم يعد قائماً في الولايات المتحدة وهي آخر قلاع الرأسمالية. تأكد ذلك عندما لم تجد إدارة الرئيس نيكسون في العام 1971 أموالاً لتنفق على الحرب في فيتنام ففعلت ما كان هتلر قد فعل وخرجت من معاهدة (بريتون وودز) التي كانت الولايات المتحدة نفسها قد نادت إلى عقدها في العام 1944 كيلا تنتهج أي دولة نهج هتلر وتصدر أوراقاً نقدية لا غطاء لها ؛ فكانت الولايات المتحدة الدولة الأولى التي تنسحب من تلك المعاهدة من أجل أن تصدر أوراقاً نقدية لا غطاء لها كما كان هتلر قد فعل واستحق بذلك استنكارها. إنسحابها من المعاهدة يعني أول ما يعني أن الولايات المتحدة لم تعد تنتج البضاعة الكافية لتغطية عملتها وهو الرمز الأول لسيادتها أي أنها لم تعد دولة رأسمالية طالما أن الرأسمالية تقوم فقط على إنتاج البضاعة وفق التحليل الماركسي المعروف. تلك هي القضية التي لا يرغب اقتصاديو البورجوازية الوضيعة والشيوعيون المفلسون إدراكها رغم أنها حقيقة تبز عيون الجاحدين والمفلسين، بل إن حتى قانون القيمة الرأسمالية وهو القانون الذي يشكّل المجتمعات الطبقية بليَ ولم يعد يعمل ولذلك تجد طبقة البورجوازية الوضيعة التي لا تنتج أدنى قيمة رأسمالية تتولى السلطة في سائر أقطار العالم خلافاً لكل منطق السياسة، وأن ما يوصف باقتصاد السوق أصبح أثراً بعد عين حيث الخدمات التي لها الحصة الكبرى في اقتصادات الدول "الغنية" تستهلك دون وصولها إلى السوق والأصنام في السوق قلما تجد أحداً يتمتم تعويذتها. 

كتبة البورجوازية الوضيعة والشيوعيون المفلسون يقفزون عن هذه الحقائق الصارخة ليعلنوا أن النظام الرأسمالي دخل مرحلة جديدة، أعلى من الإمبريالية، وهي العولمة، أي نزوح الشركات الرأسمالية من المركز إلى الأطراف. ويبررون نظريتهم الخنفشارية الجهولة هذه بنزوح الشركات الرأسمالية من المراكز إلى الأطراف بسبب الأجور الرخيصة لليد العاملة في الأطراف. لكن لماذا كل هذا الغباء المستهجن حتى من كتبة البورجوازية الوضيعة والشيوعيين المفلسين!؟ ألم تكن أجور العمال في الأطراف رخيصة أيضاً في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ومع ذلك لم تنزح الشركات إلى الأطراف؟ ثم من قال أن الرأسمالي يفضل الأجور الرخيصة؟ الأجور الرخيصة تجلب للرأسمالي فائضاً للقيمة أقل بالطبع وهو لا بد من أن يعارض ذلك. يفضل الرأسمالي الأجور الرخيصة في حال المنافسة مع رأسمالي آخر ينتج نفس السلعة وهذا ليس هو الحال في الأطراف.

وعندما يدهم الإحباط هؤلاء القوم الجهلاء، وقلما يكون ذلك حيث يرون في الأجور الرخيصة منجاة أمينة لنظريتهم الخنفشارية، يطرحون سبباً آخر مختلفاً وهو تجاوز الحواجز الجمركية في الأطراف. وفي هذا شيء من المنطق لكن عليهم أن يستكملوا مثل هذا المنطق فيوافقوا على أن الدول المستقلة حديثاً لم تعد تستقبل فائض القيمة المتحقق في المراكز وهو ما يعني انهيار النظام الرأسمالي حيث أن ماركس وجد أن النظام الرأسمالي سينتهي غريقا في فائض إنتاجه. وبعد أن يرفضوا استكمال هذا المنطق الذي ينسف نظريتهم في إحياء النظام الرأسمالي، يقول البعض مهم أن نزوح الشركات الرأسمالية من المراكز إلى الأطراف كان بسبب الضرائب الباهظة التي تفرضها الدولة على الشركات الرأسمالية والتي تأكل الحصة الكبرى من فائض القيمة. وفي هذا أيضاً تعليل صحيح لنزوح الشركات من المراكز إلى الأطراف. فأن تفرض الدولة ضرائب باهظة على الشركات الرأسمالية فذلك يعني أن الدولة في المركز لم تعد دولة رأسمالية والتي كانت تستخدم كل وسائط القوة لحماية مصالح الرأسماليين. الدولة التي تفرض ضرائب باهظة على الرأسماليين هي دولة البورجوازية الوضيعة وهي الطبقة التي لا تنتج شيئاً ذا قيمة ومع ذلك تشكل دولة الرفاه (Welfare State) التي إن لم تجد الأموال الكافية لتوفير رفاهيتها تستدين من الخارج لتحقيق ذلك ومن يدفع الحساب بالتالي هو الطبقة العاملة. وها هي الدول الرأسمالية الكلاسيكية تغرق في ديون أجنبية تصل إلى بضع عشرات الترليونات من الدولارات والتي لن تقوى على خدمتها في الأجل القريب حين تُرغم على إعلان إفلاسها للعالم.

قد يستهجن البعض استهجان جهالة إقتصاديي البورجوازية الوضيعة والشيوعيين المفلسين حيث يرون أن السر في عدم تفهمهم للعولمة على حقيقتها ليس هو الجهل بل شيئاً آخر! فهل لو أعلنت الدول الرأسمالية الكلاسيكية وعلى رأسها الولايات المتحدة الإفلاس العام سيقر هؤلاء حينذاك بانهيار الرأسمالية؟ هم لن يقروا بذلك فسرّهم ليس هو الجهالة بل العداء للشيوعية. إقرارهم بانهيار الرأسمالية يستحضر الشيوعية على كره منهم.

المسألة الأساسية التي يجهلها او يتجاهلها العولميون هو أن الشركة الأميركية التي نزحت إلى الهند مثلا لا تعود شركة أميركية بحال من الأحوال لأن العملية الرأسمالية تقتصر على تحويل قوى العمل إلى بضاعة ومن هنا فإن الشركة الأميركية أصلاً في الهند هي شركة هندية مائة بالمائة فكل عنصر من عناصر الإنتاج هو هندي وخاصة قوى العمل التي تخلق الإنتاج وهي هندية.

فائض القيمة المتجمع من شغل مئات الملايين من العمال في شرق آسيا، وهو يساوي عشرة أضعاف فائض القيمة الذي كانت تجمعه جميع المراكز الرأسمالية قبل الحرب العالمية الثانية، يتجمع معظمه في السوق الأميركية لاستهلاك المواطنين هناك وتدفع الإدارة الأميركية ثمن هذا الكم الهائل من البضائع دولارات فارغة القيمة ويُسجل بعضه دينا مستوجب التسديد فيما بعد. مع كل هذا يؤكد كثيرون غفلتهم بادعاء أن الولايات المتحدة ما زالت دولة رأسمالية إمبريالية!

إذا ما هي العولمة؟
عندما تنهار إحدى الجبهتين المتحاربتين يبادر جنودها إلى الهروب من ساحة القتال عائدين خلسة إلى بيوتهم. ذلك ما حدث في انهيار النظام الرأسمالي فحال انهياره في المركز هربت الشركات الرأسمالية "خفيفة الوزن" إلى الأطراف حيث شروط الإنهيار لم تكن قد بلغت بعد حديتها. فالضرائب إما معفاة أو في حدودها الدنيا، والحواجز الجمركية لم تعد تعمل ضدها، كما يمكن التغلب على المعيقات الأخرى. غير أن هذا لا يجعل من الطرف مركزاً رأسمالياً حيث خُلق النظام الرأسمالي على شكل خلية، نواة ومحيط، ولا يمكن أن يقوم المحيط بوظيفة النواة. المركز الرأسمالي عداك عن تطوره المادي والعلمي والقيمي وغير ذلك يتحتم عليه أيضاً بناء قوى عسكرية قادرة على تأمين سلامة وعمل الخلية الرأسمالية خاصة وأنها تقوم أساساً على الإستغلال والإعتداء على الشعوب وهذا ما لا تستطيع الأطراف القيام به ولا العصر يسمح بذلك.

ما يعتبر "نهوضاً" إقتصاديا في الصين وبلدان شرق آسيا له تفسير واحد فقط هو "نهوض" مديونية الدول الرأسمالية سابقا والتي تتجاوز اليوم 50 أو 60 ترليون دولارا ثقيلاً أو 150 ترليون دولارا خفيفاٌ من دولارات اليوم فتسديد الديون الخارجية لا يتم بالأوراق النقدية بل بالبضائع. وباضافة الديون الداخلية تصبح المديونية بعدئذ أرقاما فلكية وليست من بنات الواقع مما يدل بصورة قاطعة إلى أن النظام السائد اليوم ليس هو من أنظمة الحياة خليك عن النظام الرأسمالي.

العولمة التي تحدث فيها اقتصاديو البورجوازية الوضيعة والشيوعيون المفلسون إنما هي الظاهرة المرافقة لانهيار النظام الرأسمالي. كل من يمتلك شيئاً من النباهة لا بد وأن يدرك أن إعلان رامبوييه 1975 الصادر عن الاجتماع التأسيسي لمنظمة الخمسة الأغنياء (G 5) إنما هو ورقة نعي للنظام الرأسمالي حيث أعلن الإعلان الفصل التام بين النقد وبين البضاعة وما كان ذلك ليكون إلا لأن تلك الدول الخمسة تملك المال الوفير لكنها لم تعد تنتج البضاعة الوفيرة أي أنها تقر على أنها لم تعد دولاً رأسمالية. لو أن العولمة هي تلك التي يتحدث عنها اقتصاديو البورجوازية الوضيعة والشيوعيون المفلسون لرأينا العالم غارقاً في محيط من البضائع الرخيصة غير أن الواقع هو العكس تماما فالعالم اليوم مدين بأكثر من 75 ترليون من الدولارات وهو ما يعني تماماً أن العالم لم يعد يجد ما يكفي لتلبية احتياجاته من البضاعة. هذا وحده كافٍ لتقويض كل ادعاءات اقتصاديي البورجوازية الوضيعة والشيوعيين المفلسين في أن العولمة هي إحياء جديد للنظام الرأسمالي.

نظراً للأهمية الحدية لموضوع العولمة، فيما إذا كانت مرحلة جديدة متقدمة للنظام الرأسمالي أم أنها الإنهيار الفعلي للنظام الرأسمالي، فذلك ينعكس في برنامج الحزب، أي حزب مهما كانت شعيرته، ويتجلى ذلك بمحاكات لبرنامج لشروط النظام الإقتصادي الإجتاعي القائم. فبرنامج الحزب الشيوعي الذي يحالكي النظام الرأسمالي الإمبريالي المفترض لن يكون إلا غثاء لئن كان النظام الرأسمالي الإمبريالي قد تهاوى منذ أمد طويل حيث كان المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي بحضور ستالين في أكتوبر 1952 قد اتخذ قراراً يقول بانهيار النظام الإمبريالي في وقت قريب. لا يجوز للأحزاب الشيوعية في العالم أن تتجاهل قرار الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان يقود الثورة الشيوعية في العالم. 

من الضروري اليوم أن تعمل الأحزاب الشيوعية في العالم العربي بداية على عقد مؤتمر عميق وواسع لثقات الماركسية يبحثون في صدقية قرار الخزب الشيوعي السوفياتي المشار إلية وفي العولمة فيما إذا كانت إحياء للنظام الرأسمالي أم انهياره. ذلك هو أهم مسألة تواجه العمل الشيوعي.