لا زالت أيام زمان تعنّ على البال، متعة البدايات، تلك الأصوات المحفوظة في أرشيف الأثير، لحَظَات حبور، رنين ذكريات، رائحة أمكنة، أيام كنّا صبياناً نَهيمُ في البراري، نلتقط الجنادب لنُطعمها الصيصان، نقفز فوق أسوار البساتين، نلتهم العنب والكرز، نلعب الغُمّيضَة والزّركان، نتسلّق السّلالم الخشبيّة العتيقة إلى السطوح، نُطَيّر" القبابيع " وطائرات الورق، نحلم أننا نحلّق معها حدّ السموق، نمُدّ لها كبكوبة الخيطان، نراقصها التانغو على إيقاع هبّات النسيم. 

كنّا نجعل من أغصان شجر التّين أحصنة، نلجُمها بحبال، نخلع عليها أسماءاً طنّانه، "نُخَيّلُ" عليها، نصُول ونجُول كما كان يفعل عمنا " بُوننْزا " في أحد أشهر مسلسلات " الويسترن " آنذاك. 

كان آخر همّنا أن ينزعج من ضوضائنا الجيران! فمن ذا يجرؤ و "عِصابتنا" هي القوة الأمنيّة الضاربة المنتشرة في أنحاء الحي، لم يَمس بهيبة دولتنا أحد، اللهم ّما خلا أمهاتنا اللواتي كنّ يكثرن الخبيط والعقاب على كل صغيرة وكبيرة، كنّا نحسب ذلك اضطهاداً وقمعاً واحتجازاً تعسفياً فيما كان هذا عند "ستاّت الحبايب" أسلوباً تربوياً مُجرّباً موروثاً عن الجدّات،يرونه نافعاً وثابت الفعالية لمسقبل الأيام. 

كان علينا أن ننام خلال الظهيرة كي لا نذهب للّعب مع "الزعران"، وحتى نرضخ للأمر الواقع ونرضى بالنوم خياراً وحيداً كان باب الغرفة يغلق في وجهنا بالأقفال! ولكن، أنّى لكل أقفال الدنيا أن تمنعنا من تسلق الشباك ثم القفز من على الشرفة بغية لقاء الرفاق في شلّة " الزقزوق ".
كنّا نخوض حروباً شرسة مع أبناء الحارتين " الفوقا " و" التحتا "، نبني مخيمات ومراكز دفاعيّة وخنادق، نُنتج قنابل يدويّة زجاجيّة محشوّة بالرماد والمسامير! وكان هذا "سلاحاً" فاعلاً لدينا يهدف إلى تعكير الرؤية في أرض المعركة ومنع تقدّم "العدو"!. 
كنّا نُقاتل " بشرف "، وفق قانون الحرب، نتّفق مع الخصوم على يوم المعركة وساعتها والأسلحة المباح إستخدامها ونضع شروطاً " للضرب " و"الأسْر" وما إلى ذلك، وكنّا – نحن الأولاد – غالباً ما ننتصر في حروبنا وفي سائر ألعابنا على باقي الأطراف، كنّا " أكثريّة " وظلّ حيّنا حاكماً فعلياً لمعظم أحياء البلدة حتّى بدأنا نكبر ونتشظّى، ثم مضى كل منّا إلى غايته. 
وكما كل الفتيان في كل زمان ومكان كنّا مفتونين بعالم الأبطال في التاريخ والأفلام.

ذاك "الأنا الصغير "،العاقد الحاجبين، كيف كان يُطل على بنات جيله الصغيرات؟ 
فتاة مليحة طويلة الشعر الأشقر، زرقاويّة العينين، كانت تزورنا مع أهلها في البيت العتيق، وجدتُها _ ولا أدري كيف _ قريبة إلى قلبي، إبتسمت لها فإبتسمت، وكانت غالبا ما ترتدي ثوباً زهرياً مزركشاً بالورود، ثم لكم ضحكنا ضحك طفلين معاً، ولَهوْنا وكتبنا المكاتيب، وكان ما كان مما لست أذكره.

حرب، حب، حرية، هذا عنوان أيامنا التي مضت، وَلْدَنات، مؤامرات طفوليّة وصور ورديّة مرسومة في الذاكرة على شكل نهر يجري ضاحكاً إلى منتهاه. 

كاتب وصحافي لبناني