عندما يقال في التحليلات السياسية أن سوريا لن تعود إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الثورة، فهذا كلام واضح وصحيح إلى حد كبير ويعني جملة من الأشياء، من بينها أن سوريا المستقبل يجب أن تكون دولة لجميع مواطنيها، على اختلاف دياناتهم وقومياتهم وإثنياتهم، وان الجميع سواسية امام القانون، والحقوق والواجبات مصانة. الحديث عن حل في سوريا على أساس الفيدرالية ليس وليد اليوم. الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" كان أول من اشار الى مثل هذا الحل في شهر نوفمبر من عام 2015م، أي بعد حوالي شهرين من بداية التدخل العسكري الروسي. 

اعتقد ان الرئيس الروسي اراد بطرحه هذا الحل ان يقطع الطريق على "جون برينان" المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الامريكية (CIA) الذي قال خلال مشاركته في مؤتمر حول الاستخبارات نظمته جامعة جورج واشنطن في العاصمة الفيدرالية الأمريكية يوم الثلاثاء، 27 اكتوبر 2015م: "عندما انظر الى الدمار في سورية وليبيا والعراق واليمن يصعب عليً ان اتخيل وجود حكومة مركزية في هذه الدول قادرة على ممارسة سيطرة او سلطة على هذه الحدود التي رسمت بعد الحرب العالمية الثانية". وكرر مثل هذا القول خلال مشاركته في منتدى "أسبين الأمني" السنوي، يوم السبت الثلاثين من شهر يوليو عام 2016م حيث قال: "إنه غير متفائل بشأن مستقبل سوريا، ولا يعرف إذا كان يمكن او لا يمكن عودة سوريا موحدة مرة أخرى".

الاخبار التي رشحت مؤخرا تشير الى إن مقترح الفيدرالية سيطرح على الأمم المتحدة الشهر المقبل، وستوافق عليها كل من اميركا وروسيا والصين والدول الأوروبية والعربية، وسيكون على أساس أن لكل محافظة من المحافظات السورية حاكما ومجلس محافظة يتبعان دمشق في المسائل المالية والسياسات الخارجية والدفاعية، ويفترض أن يبدأ عمليا تطبيق الدستور الفيدرالي بعد شهرين من إجراء انتخابات عامة يشارك فيها السوريون في الداخل وفي الخارج، وتجري بإشراف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وتقرر بالنهاية موقع بشار الأسد من الحل. 

وينص الدستور الفيدرالي المقترح، على تشكيل مجلس رئاسي ثلاثي، بحيث يكون هناك رئيس ونائبان للرئيس، شرط أن يكون لنائبي الرئيس حق المشاركة الكاملة في اتخاذ القرار، وعلى أن يتشكل هذا المجلس على أساس أن يكون الرئيس علويا ونائب الرئيس سنيا والنائب الثاني من الأقليات. وتشير هذه الاخبار إلى نقطة لا تزال موضع بحث مع الروس، على خلفية أن الجانب الأميركي يصر على إلغاء كل الأجهزة الأمنية القائمة وعلى إنشاء "جهاز أمن وطني" بفرعين، فرع يتبع الجيش ويكون بإمرة قائد علوي، وفرع يتولى الأمن الداخلي ويكون بإمرة قائد سني ومن حلب تحديدا.

الفيدرالية في الغرب قامت على فكرتين: الأولى هي توسيع مساحة الدولة الجغرافية وهي فكرة تقول "ان الأكبر هو الأفضل"، وقد اضفت الكيانات الأمريكية التي استقلت عن بريطانيا في بداية القرن الثامن عشر مفهومها الجديد الذي اقترن بالنجاحات التي حققتها الفيدرالية في شتى الميادين السياسية والاقتصادية. هذا المفهوم دعا الى تحقيق الوحدة السياسية بين كيانات وقوميات مختلفة من اجل الأمن والنماء الاقتصادي.

الفكرة الثانية التي رافقت تطور الدعوة الفيدرالية وتطبيقها في دول العالم المتقدم هي الحذر من الدولة والرغبة في تقليص دورها في المجتمع، ويشكل هذا الحذر مركزا رئيسيا من مرتكزات الفكر السياسي الأوروبي. الفيدرالية كما يراها الغرب تهدف الى وضع نوع من العراقيل امام الدولة المركزية حتى لا تكبت الحريات ولا تطغى على الأفراد وعلى مؤسسات المجتمع المدني. هذه المعايير حولت الولايات المتحدة وسويسرا في نظر المعنيين بقضايا الديمقراطية والحريات والتنمية الاقتصادية والإدارية الى النموذج الأفضل للدولة الفيدرالية.

الفيدرالية المقترحة لحل الأزمة السورية قائمة على أسس دينية / مذهبية واثنية، وهي في الحقيقة ليست الفيدرالية بمفهومها السياسي العلمي، بل هي (كما فهمتها) محاصصة سياسية مشابهة لما كان عليه لبنان منذ استقلاله وحتى مؤتمر الطائف عام 1990م الذي أجرى بعض التعديلات عليها حيث قلص كثيرا من صلاحيات الرئيس لصالح رئيس الوزراء ومجلس الوزراء مجتمعين. وهي كذلك مشابهة لما هو مطبق في العراق منذ عام 2003م، حيث رئيس الوزراء (ذو الصلاحيات الواسعة شبه المطلقة) شيعيا، ورئيس الدولة الذي لا صلاحيات له كرديا، ورئيس مجلس النواب سنيا. المحاصصة السياسية أدت الى حرب اهلية في لبنان استمرت 15 عاما، وفي العراق أدت الى احتلال "داعش" لحوالي ثلث العراق، وقرار الاكراد مؤخرا اجراء استفتاء حول الاستقلال عن العراق، ولا يزال البلدان يعانيان من تبعات المحاصصة السياسية ويعتبران في عداد الدول الفاشلة.

الشق الاول من الفيدرالية المقترحة لحل الازمة السورية المتعلق بتشكيل المحافظات وحكامها ومجالسها متوافق مع مفهوم الفيدرالية الصحيح. أما مقترح تشكيل المجلس الرئاسي على أسس مذهبية وإثنية فهو بمثابة قنبلة موقوتة لا بد ان تنفجر في وقت ما وتنسف كل شيء. المفروض ان يكون من حق كل مواطن سوري ان يترشح لواحد من هذه المناصب الثلاثة، والشعب هو من ينتخب من يراهم مؤهلين لتولي المسؤولية لفترة لا تزيد عن أربع سنوات، ولا تتجاوز فترتين رئاسيتين. أما رئاسة الاجهزة الامنية فلتكن تحت قيادة السوريين الاكفاء بغض النظر عن قومياتهم واديانهم ومذاهبهم. لماذا لا نطبق المفاهيم الصحيحة المُجربة بدلا من ان نُجرب المُجرب الفاشل؟