تعودنا على أن لا يكتفي المتحامل على ماضي أجداده بلعن السلفِ وشتمه في كل مناسبة، على اعتبار أنه يرى في السلفِ بأنه كان على باطلٍ في جميع ما قام به، متجنباً كالعادة تقدير الظروف الذاتية والموضوعية للغائبين، والأسباب والدوافع والحاجات الوجودية التي جعلتهم على ماهم عليه، بل ومن باب تهرب الشخص المعاصر عن أداء ما يتوجب عليه القيام به راهناً، يُحمّل الغابرين حتى تبعات تململه وتقاعسه هو وأتباعه الحاليين، وذلك حتى يخفّف عن ذاته عبئاً كان قد تهرب عن حمله في غابر الزمان أمثاله المتقاعسين. 

حيث يُشبع الساسة والمثقفون ونشطاء الحاضِر قادة الكرد التاريخيين طعناً كلما بُحث موضوع غياب الدولة الكردية ومسألة تقهقر الكرد قومياً، فيرون بأن الراحلون لم يكونوا ليس فقط على مستوى وعيهم وتفكيرهم الحالي، إنما الأهم أنهم كانوا دون مستوى إدراك وفطنة معاصريهم آنذاك، وأنهم بالغوا في سذاجتهم الإيمانية فيما يتعلق بالغيبيات في زمن تمسك الآخرين بشروش العصبيات المعاشة، حيث أن ذلك السلوك الخدمي بنظرهم أشبه بالغباء الكردي المستساغ لدى الآخرين عبر التاريخ، وخاصة جيرانهم المسلمون، الذين لم يتنازل أحدهم قط عن خصوصيته القومية أو القبلية أو العشائرية، باستثناء الكردي، الذي انطلت عليه القصة الدينية سابقاً، والفكرة الاشتراكية لاحقاً، والديمقراطية راهناً! 

كما أن الملامات ولعنات الذات تجددت منذ أيامٍ أيضاُ، أي في فترة احتفالات تركيا نهاية الشهر المنصرم رسمياً وشعبياً بمناسبة معركة (ملاذكرد) 1071 م التي انتصر فيها السلاجقة الأتراك على البيزنطيين، حيث عاد المثقف الكردي إلى جلد الذات على الخدمات التاريخية والتضحيات التي قدمها الأجداد لشعوب المنطقة والتي سرعان ما قام المخدومون من قبل الكرد بإنكار كل تلك التضحيات، ومنها فقد ذكر الكاتب بدرخان علي أن الترك أنكروا الدور البطولي للكرد في معركة "مَلاذكُرد" التاريخية، وأردف الكاتب بأن الحكومة التركية ومعها الأوساط الاكاديمية والثقافية التركية، لم تذكر أنه لولا مشاركة 10 آلاف فارس كردي، شكلوا أضعاف عدد المقاتلين السلاجقة، في جيوش السلطان السلجوقي ألب أرسلان، في معركة ملاذكرد لما تمكن السلاجقة من النصر، ولما ظهرت الامبراطورية العثمانية لاحقاً ولا تركيا المعاصرة بعدها!

ولكن بدلاً من الغوص في حروب الماضي والخدمات المجانية التي قدمها الفرسان الكرد للجيران على الدوام، أليس حريٌ بكرد الراهن الوقوف على الخدمات العسكرية لأنصار ومسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي منذ أعوام في سوريا وحتى الآن، فكيف نحاسب شخصاً أخطأ بحساباته السياسية منذ قرون، بينما ابن الحاضر يرتكب الحماقات المدمرة عياناً جهارا ولا يتم محاكمته على جريرته؟ فها هو حزب الاتحاد الديمقراطي مَن لديه الاستعداد للافتداء بمئات الكرد مجاناً في معارك الجيران، كمعركة الرقة راهناً، وقبلها معارك منبج التي قضى فيها على خيرة الشباب والشابات، ولاحقاً معركة دير الزور، بل وبكامل التبجح التنظيراتي يقول السيد نواف خليل الإيكولوجي المقرب من حزب الاتحاد الديمقراطي، إن الهدف الرئيس بالنسبة لهم هو هزيمة داعش، داعياً إلى الأخذ في الاعتبار التحضيرات الحالية لمعركة دير الزور الكبرى والاستراتيجية حسب زعمه والتي ستحدّد مع معركة الرقة مستقبل سوريا برمتها، فيبدو أن السيد نواف وحزبه سيحاربون داعش نيابةً عن طاغية دمشق إلى أن يأتي دورهم ويستفرد بهم النظام كما جاء في القصة التراثية التي تتحدث عن حيلة الأسد (أسد الغابة) في أكله للبقرات الثلاث*، علماً أن السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد سبق له أن حذّر الاتحاد الديمقراطي من مغبة تخبطه السياسي وتحالفاته اللاموفقة، كما أن فورد نفسه عاود القول في حديث له مع "ذا نشيونال" الأمريكية نهاية الشهر الماضي، بأنه "بعد طرد داعش من الرقة ودير الزور، هناك احتمالية كبيرة بأن تبدأ الميليشيات الإيرانية وقوات الأسد هجوما ضد الأكراد ولن يحترموا وقتها وقف إطلاق النار"، كما أن أمير قبيلة "البقارة"، نواف البشير كان قد هدَّد هو الآخر في وقتٍ سابق من الشهر الماضي، بتنفيذ عملية عسكرية كبرى في الشمال السوري ضد الأكرد، بقوله:"بعيدًا عن لغة الدبلوماسية أقول للعصابات الكردية قريبًا سنعيد أمجاد 2004 وبطولات الفرقة الرابعة، وسنسحل رموزكم ونسلح العشائر، بل أكثر من ذلك"، وذلك في إشارة منه إلى تسليح نظام الأسد آنذاك للعشائر العربية ضد انتفاضة قامشلو في 2004 وقمعها بكل وحشية من قبل أرجاس النظام وأتباعه!

فلماذا إذن نتحدث عن معركة (ملاذكُرد) أو معركة (حطين) وغيرها من معارك السلف كُرمى الجيران، ونلوم الراحلين على استخدامهم واستغبائهم من قبل الآخرين، بينما قادة الحاضر في منظومة العمال الكردستاني ومن يدور في فلك تلك المنظومة لا يزالوان في أتم استغبائهم، طبعاً نقول ذلك ليس من باب التجريح، إنما بناءً على معيار الاستغباء نفسه الذي يستخدمونه بحق صلاح الدين الأيوبي أو غيره من قادة الكرد التاريخيين! بما أنه ليس بخافٍ على أحد الخدمات الجليلة والقرابين المجانية التي يقدمها الاتحاد الديمقراطي تارة لإرضاء النظام وحليفه الإيراني، وتارة لإرضاء الروس، ومع ذلك فمعظم نشطاء الثورة وحتى معظم الموالاة يتهمون وحدات الحماية الشعبية بأنها محتلة وأنها انتهكت وفعلت كذا وكذا، علماً أن تلك الوحدات تحرر لهم، وتعمل نيابةً عنهم على تحرير منطقة تلو الأخرى من تنظيم داعش! والسؤال فهل هنالك مؤشر واحد يدل على أن في يومٍ من الأيام سيقول أحدهم بأن هذه المنطقة حررها لنا الأكراد العملاء والخونة؟ أم كما حدث مع السلجوقيين سيُنسب التحرير لقواتٍ أخرى؟ وما على الشباب الكردي إلا الموت مجاناً باسم الأمة الديمقراطية السخيفة التي لن يذكرها أحد في يوم من الأيام، طالما أنها أمة خادمة وممسوخة وغير واضحة المعالم ولا هوية محددة لها. 

وفي الختام نقول ما الفرق يا ترى بين أن يكون الكردي في موضع المستغبى باسم الدين ماضياً، وبين أن يكون مستغبى باسم الاشتراكية فترة لا بأس بها، وطبعاً من دون الوقوف عندها أو محاكمة العقل عليها، خاصةً في فترة القائد الأحمر جوزيف ستالين، وبين أن يكون الكردي مستغبىً في الوقت الراهن باسم الديمقراطية المزعومة التي لن تكون تبعات إيمان الكردي الأعمى بها أقل ضرراً من استغبائه الطويل باسم الدين والاشتراكية؟.
ــــــــــــــ
*القصة تحكي أنه "كان هناك ثلاث بقرات في الغابة واحدة سوداء و واحدة حمراء و واحدة بيضاء، وفي أحد الأيام اقترب الأسد منهن فإتحدن وإستعدن لمهاجمته فرفع الأسد الرايه البيضاء يطلب (التحدث معهن) فقال لهن أنا ملك الغابة ولا أحد يتجرأعلى رفض طلب مني وأنا هنا لأعرض خدمتي عليكن فأنا سوف أدافع عنكن لترعن في الغابة بسلام فوافقن الثلاث بقرات دون معارضة وفي اليوم الأول أتى الأسد إلى البقرتين الحمراء والسوداء فقال لهما: أنا لا أستطيع أن أحمي ثلاث بقرات، فالبقرة البيضاء لونها واضح في الليل والنهار وتسبب لنا المتاعب، أما أنتم فلونكم عاتم ولا خوف عليكم، فما رأيكم في التخلص من البقرة البيضاء ليسهل علي الدفاع عنكن، فوافقن البقرتين وبعد الموافقة هاجم الأسد البقرة البيضاء وأفترسها و فى اليوم التالى ذهب الأسد إلى البقرة السوداء وقال لها أنتي لونك ممتاز أما البقرة الحمراء لونها مغري وسببت لنا المتاعب ما رأيك أن أتخلص منها، فوافقت البقرة السوداء فذهب الأسد إلى البقرة الحمراء وافترسها، وفى اليوم الثالث جاء دور الأخيره أي البقرة السوداء، فجاء الأسد قاصدها فقالت له هل تأكلنى؟ فقال لها لقد أكلتك يوم سمحتى لى بأكل أختك البيضاء". وهنا لا نقول البتة بأن تنظيم داعش هو البقرة البيضاء، إنما المقصد أن الأسد لا يوثق جانبه بكل الأحوال سواءً إن كان هنالك بقرة بيضاء أم لم تكن موجودة بالأصل، أي سواءً ان وجد تنظيم داعش أم لم يكن موجوداً بالأساس.