ان الظواهر السلبية في الحياة الاجتماعية والحياة الثقافية في المجتمعات الإسلامية تؤثر لا محالة على الحياة السياسية، وذلك حسب ظروف وأوضاعوتاريخ كل بلد. وتبدو لي في المقدمة:

1. تسلل التطرف الديني الى الحياة السياسية، وتبلور الإسلام السياسي بفروعه ومشتقاته. وذلك، خاصة منذ قيام حركة الأخوان في مصر عام 1928. فالأخوان سيسوا الدين واستخدموه لمآرب وأهداف سياسية واستخدموا العنف في ذلك، حيث كان لهم منذ البداية جناح عسكري سري مسلح. وازداد نمو واتساع محيط الإسلام السياسي بانتصار الخمينية التي استعارت من سيد قطب نظرية (حاكمية الله) واستبدلته بما سمته (حاكمية الأمام الغائب) ونعرف كيف انتشر التطرف الديني المسيس وظهور التنظيمات الإرهابية المتعددة من القاعدة وفروعها وثم داعش، الذي خلف القاعدة وفاقها وحشية وخطراً. والإسلاميون يعملون على إقحام الدين في كل مسالة، وحتى في قضية فلسطين التي هي قضية احتلال واسترجاع الأرض وقيام دولة مستقلة، وتستغل الأحزابالإسلامية عملية الانتخابات للوصول الى السلطة ومن ثم فرض كامل الهيمنة وإقامة ديكتاتورية شمولية. وكل نظام شمولي، وأيا كان لا يمكن ان يقيم دولة ديمقراطية حديثة. وجدير بالذكر أيضا ان النظام الاستبدادي الذي يدعي العلمانية، يفرّخ التطرف الديني وينميه، بما في ذلك الإرهاب الجهادي. فالاستبداد السياسي والإرهاب الجهادي وجهان للعملة نفسها. 

2. ضعف التقاليد السياسية الديمقراطية وغياب عقلية التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات كما في الديمقراطيات الغربية. وغالباً ما نجد حكاما يتشبثون بالسلطة ولو على حساب إبادة الملايين والدمار، والتغلغل الخارجي. انه تشبث بالسلطة حتى النفس الأخير.

3. شبه غياب ممارسة النقد والنقد الذاتي السياسيين، فالنقد للأحزابيكون اتهاماً وعدائيا لحساب تبرئة الذات من أي خطأ مهما كان بسيطا. وسبق ان تطرقنا لشيء من هذا عند رحيل المناضل البارز عزيز محمد، وما نشره شيوعيون من مذكرات.

4. هوس وجود مؤامرات خارجية هي المسؤلة عن كل المشاكل الداخلية،وذلك لصرف الأنظار عن مسؤولية الحكام وتوجيه الأنظار الى الخارج المتآمر، وهو غالباً في الغرب.

5. استغلال القضية الفلسطينية لمآرب سياسية لا تدخل ضمن مصلحة هذه القضية وإنما هي متاجرة ومزايدة لاستثمار عواطف الجمهوروأبعاده عن التفكير في المشاكل الداخلية. وسبق ان كتبنا أكثر من مقال عن هذه المتاجرة وهذه المزايدة من قبل أنظمة أساءت للقضية الفلسطينية نفسها وعملت على تمزيق الصف الفلسطيني، مثلاً في حالات حافظ الاسد وصدام.

هذه ملاحظات لا تدعي الإحاطة، فلا شك ان هناك ظواهر وعللا أخرى، كما لم نتطرق هنا الى الحاجة الملحة للإصلاح الديني وإصلاح التعليم الذي له دور مهم إيجاباً او سلباً.

أنها علل منتشرة في العالم الإسلامي بدرجات متباينة. ونكرس الحلقة الأولىمن المقال للنواحي الفكرية والاجتماعية التي لها تداعياتها وتأثيراتها على العمل السياسي. الى جانب انتشار الجهل والأمية والفقر،فأننا نصتطدم أولابتضخيم الذات( أي نحن العرب والمسلمون) وروح التعالي على الآخرين، ولاسيما على الغرب. فأما الماضي فان تضخيمنا له هو بلا حدود، وكأنه كان مشرقاً كله وعلى الدوام، بما في ذلك تمجيد شخصيات سلبية من أمثال خالد بن الوليد الذي يقدسون اسمه، وهو من قتل رجلاً وطبخ رأسه، ثم هجم على زوجته الجميلة وجامعها. وأيضا مثال طارق بن زياد، الذي اخذ ألافا من النساء المسيحيات سبايا ورقيقاً، وحوّل الكنائس الى مساجد. ويبلغ الانتفاخ حدّ الادعاء بأن العرب القدامى سبقوا نيوتن في منجزاته العلمية، وأنهم قبل ألاف من السنين قبل الميلاد صنعوا مركبات تسير آليّا... وهنا ذهب وزير عراقي عبقري الى الإعلان عن ان قدامى أهل مدينة الناصرية كانوا يطيرون الى الفضاء بمراكب خاصة.... وقد نشر بعض الساخرين من هذه النرجسية الادعائية، حكاية ان شكسبير نفسه لم يكن انجليزيا، بل كان من أصل عربي واسمه شيخ شبير.... ان هذه النرجسية تبلغ أقصاها في المجال الديني، حيث انتشار ثقافة ان لا دين غير الإسلام... وهي نرجسية تقع في أصلالحركات والتيارات الدينية المتطرفة والإسلام السياسي بكل تفرعاته .

أننا نلاحظ انتشارا واسعا لتكفير الغرب واتهامه بأنه موطن الرذيلة والفساد الأخلاقي، وفي الوقت نفسه يتراكضون ألافا وملايين الى بلاد الغرب بحثاً عن الحرية وعيش أفضل. فهل أكثر من ذلك ازدواجية ونفاقاً ؟؟؟؟؟ وهنا أتذكرمقالاً لأحمد الصراف بعنوان (نريد وطناً كبلد الكفار) في تناول للظاهرة مارة الذكر....

ومرض آخر، وهو مزمن أيضاً، يتمثل في النظرة الدونية للمرأة، وانتشار عقلية ان الرجال قوامين على النساء، وان المرأة ناقصة عقل ودين. وقد استطاعت الحركات النسائية والقوى الديمقراطية مكافحة الكثير من هذه الأفكار وما يبنى عليها من ممارسات، وانتزعت المرأة كثيرا من حقوقها وحريتها. ولكن صعود الإسلام السياسي في العقود الأخيرة، استطاع الإجهاز على أكثر هذه المكتسبات، وعادت القيود الثقيلة تفرض على النساء، وصرنا مثلاً أمام برلمان عراقي، نجد فيه عدداً من النائبات يروجون لكون الرجل قوام على المرأة، ومنهن من راحت تدعو الى زواج طفلة التاسعة. أماقانون الأحوال الشخصية المدنية فاستبدلوه بعكسه... ومن الأمراض المزمنة أيضا عنف الخطاب وعنف السلوك، ورفض الاعتراف بالخطأ مهما كان بسيطاً. وهذا وأمثاله، انعكاساتها على الحياة السياسية كما سوف نرى في المقال التالي. وإذ نستعرض ما مر، وهناك سواه، فان قوى التغيير والتنوير لم تلق السلاح، بما في ذلك موضوع المرأة وحريتها وحقوقها. وبهذه المناسبة نحيي ذكرى المناضلة السودانية فاطمة إبراهيم، التي رحلت عن الحياة مؤخراً بعد نضال طويل من اجل حرية المرأة وكرامتها ومن اجل حرية شعب السودان وحقه في الديمقراطية والتقدم... كما نحي بطلات يواصلن النضال من أمثال الباكستانية ملالا التي كادت ان تقتل لمجرد دعوتها لتعليم المرأة.. ان المستقبل لن يكون إلا لقوى التنوير والديمقراطية و ذلك مهما طال الطريق وازدادت التضحيات.