ليس جديدا اذا ما وصفنا معضلة الفساد المالي والإداري في البلدان بأنها كارثة حقيقية حلت بالدول والحكومات المعاصرة في العقود الأخيرة عندما شرعت هذه الحكومات بتنفيذ العديد من الخطط والبرامج التنموية والتطويرية في المجتمعات بهدف ارساء دعائم قاعدة صلبة للصناعة والزراعة والبنية التحتية والخدمات..

وهنا لا بد من تحديد الاشخاص الفاسدين لمعرفة نوعية الفساد المالي واساليب مواجهته فهو يتعلق بانحراف الافراد المرتبطين بعجلة الدولة كمؤسسة ضامنة للعيش والتنظيم الاجتماعي والموكل اليهم مسؤولية تنفيذ ومراقبة المشاريع والبرامج المراد تحقيقها لفائدة الكيان الاجتماعي والبلاد وأول مظهر للفساد يبدأ بأنحراف اشخاص الدولة ممن يتولون المناصب الحكومية عن معايير وشروط تسلم المسؤوليات والمواقع الإدارية هذه المعايير والاشتراطات تتعلق بأعتماد قواعد العمل النزيه والمحافظة على المال العام..

الا ان العناصر الفاسدة تبدأ بتكديس الثروات الشخصية عبر استخدام طرق غير شرعية او اخلاقية في التهاون عند تطبيق مسطرة الدولة والتساهل في مهمة مراقبة الجودة للمشاريع ذات البعد العمومي بما يقود الى تدهور سمعة المسؤول والإدارة حينما يتفشى الفساد ويدب في مفاصل الهيئات والإدارات الحكومية..

ان هذه الضاهرة تعد بحسب تصنيف منظمة الشفافية العالمية من اخطر امراض العصر واشدها ضراوة في عرقلة جهود التنمية وتآكل خصائص المصداقية وضياع موارد مالية كبيرة من رصيد الدولة تتحول الى أموال محرمة تذهب الى جيوب المسؤولين الفاسدين والمفسدين..

ان الفساد ونهب المال العام صار في عدد كبير من البلدان ينتشر مثل انتشار النار في الهشيم وهو ظاهرة دولية لا تنفرد بها دولة او مجتمع معين بقدر ما ان الفرق هو في نوعية المكابح والصمامات التي تضعها الحكومات اليوم للحد من هذا البلاء المستطير..

صحيح كما يصف الكتاب بان فترات التحول السياسي والاجتماعي هي من انسب الفترات لازدياد حجم الفساد ونهب المال العام وهذا ما حصل في بلدان المنظومة الاشتراكية في اوربا حينما تغيرت نظمها السياسية والاجتماعية في اواخر عقد الثمانينات من القرن المنصرم وكما نلاحظ ايضا تفشي هذه الافة في العراق بعد عام 2003 م بحسب تصنيف منظمة الشفافية العالمية اصبح العراق ينافس الصومال ومينمار على المرتبة الاولى في حجم وكمية الفساد والاموال المنهوبة..

الا ان الجديد في ظاهرة الفساد هو تعقدها وتشابكها الى درجة انها صارت تلتهم امال وطموحات المجتمعات في تحسن شروط الحياة والخدمات المقدمة للناس.

ان بروز الانحرافات الوظيفية بصورها المختلفة من رشوة وتزوير عقود الاعمال والمحاباة واستغلال النفوذ بهدف التكسب الشخصي قد زاد من حجم الفجوة بين الجمهور والعاملين في الإدارة وكلما ترهلت الإدارة باعداد كبيرة من الموظفين وتأثر هؤلاء الموظفين العمومين بقلة مرتباتهم وانعدام افاق التطوير وتحسين شروط الحياة ازدادت فنون الاحتيال والنهب تحت عناوين واشكال لا يخطر على بال أحد والا كيف تفسر مثلا ان الموظف الذي بحسبة بسيطة لا يسد مرتبه الشهري حاجاته اليومية تجده خلال سنوات قليلة يصبح من اصحاب العقارات والفلل او ان يمتلك ويدير عبر اقاربه وابنائه مجموعات من الشركات والمؤسسات التي تدر دخلا صافيا وخالصا..

ان الفساد بصورته المعروفة ماليا واداريا اذا ما انشب مخالبه في جسد المجتمع سيصل تأثيره الى حد نسف كل البنى والقيم الاخلاقية والاجتماعية التي تقوم عليها فكرة الدولة وان تفعيل التشريعات الإدارية والرقابية لتقليص ظاهرة الفساد يبقى نقطة جوهرية في مسلسل المكافحة لان التشريعات القانونية والإدارية تشكل عنصرا هاما في تأمين البيئة الاقتصادية للموظف العمومي ولذلك فان التساهل في تطبيق الجزاء على المسؤولين الفاسدين وعدم تقديمهم الى العدالة واخبار الإعلام بحجم هذه التجاوزات سوف يجعل من السلطة دونما ان تدري راعية لانتشار ثقافة الفساد المالي والإداري.

ان مهمة التصدي لهذه الآفة المفترسة يتطلب من الحكومات ان تضع آليات قانونية ولوائح شفافة تحد من فرص استغلال النفوذ والتمترس بالسلطة لتحقيق مكاسب فردية بعيدا عن رسالة وشرف المسؤولية. فوجود اجهزة رقابية احترافية ومدربة بصورة فعالة تحضى كوادرها بالتشجيع والحوافز المناسبة سوف يسهم بلا شك في تحصينهم من الانزلاق والوقوع في ألاعيب شبكات الفساد والرشوة.

[email protected]