بعض الكبار يرحلون ويتركون في القلب حسرة تتعلق بالمنجز غير المكتمل الذي يحمل في صورته الجنينية ملامح مشروع ابداعي عظيم، لم تتسن له نهاية سعيدة، بسبب غدر الزمان وغفلة المنية.

وتتحول الحسرة نفسها الى مجال خصب للتخيل وتقليب الاحتمالات حول ما كان سيكون الامر عليه لو أن الزمن كان رؤوفاً بالابداع، فأطال في عمر المبدع وسمح له بانجاز المقدر له أن ينجز، وأحسب أن سجل المبدع الكبير الراحل يلماز غوني هو من النوع الذي ينطبق عليه التشخيص الآنف الذكر مما يطلق في القلب الف حسرة وحسرة.

العمر الإبداعي ليلماز غوني لم يتجاوز العشرين سنة، ولكن المنجز من حيث النوع والصدى يعادل عمراً بأكمله. وما كان في أجندته الابداعية، لو أجرينا حسبة زمنية بسيطة، كان سيكون أعظم وهنا مبعث الحسرة. ولكن هل عظمة وكبر المخرج الكبير يقاس بالعددية أم أن المسيرة البهية لمناضل أدواته السينما والفن الراقي تشكل خصائص جوهرية في التعريف وحفظ المكانة، هل يكفي أن نقول أن يلماز غوني كان ثورياً يسارياً لكي يمنحه ذلك جواز المرور نحو الخلود؟ وهل كان عدد اليساريين الملتزمين قليلاً في عهده حتى تكون الهوية الفكرية تمايزاً في عالم الفن؟ هل يكفي أن نقول أن غوني كان مخرجاً كردياً قدم السينما بإسم شعب مضطهد منع من تحقيق ذاته؟ حيث منع من تطوير ثقافته القومية ومن غير الكرد وبعض أصدقائهم، كان سيصفق لنتاجات غوني السينمائية حين يسدل الستار عن الشاشة الفضية؟

كانت نهضة يلماز غوناي ووعيه بقضية شعبه القومية بعد عهود من السراب اليساري التركي ايذاناً بنهضة أمة، علامة من علامات السعة الثورية، حيث تتم استعادة الوعي بحقيقة وجود شعب متميز عن الترك وعريق في وجوده على أرضه، ترك غوني لعبة الاشارة والغمز الى قضية شعبه القومية مذ وطأت قدماه أرض باريس، بلد الكومونة وعاصمة ثورة الحرية والمساواة والاخاء، اذ كانت هذه سمة أفلامه العظيمة في رحلته الايطالية نسبة الى (خصائص السينما الايطالية الواقعية) وانتقل الى الحديث المباشر عن كردستان، والام ومعاناة الشعب في رحلة الاستعمار الداخلي تحت نير الفاشية العسكرية التركية، سواء في أفلامه الكثيرة مثل الطريق والقطيع وسيدخان والجدار أو في حديثه المباشر أثناء عقد الندوات عن ضرورة تكثيف الجهود الثورية من أجل درء مخاطر التطبيع والتتبع بحسب أهواء الانقلابيين برئاسة كنعان أيفرين.

كانت "باريس" محطة تكثيف الوعي بالمسألة القومية ومنصة اطلاق لرغبة دفنية بالكردوية نسبة الى الهوية الكردية، كردوية قمعها الانكار الكمالي طوال عقود من الحكم الجمهوري، أخذ غوني يصول ويجول في التعبير عن هذه الرغبة الكوردية دون أن يكون ذلك علىحساب آخر نتاج فني له، وهو فيلمه"الجدار" كان الجدار علامةمضيئة في تاريخ سينما غوني، وأيضاً كان تأكيداً على الفصل الدقيق الذي كان غوني يحرص عليه بين سطحية المباشرة السياسية وبين عمق الفنية من حيث اتكاله على البعد الجمالي.

هرب يلماز غوني من السجن الكبير، كما هرب ناظم حكمت ضمن سيناريو محكم كرره زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، ذهب حكمت الى الاتحاد السوفياتي وذهب غوني الى باريس، بينما واجه أوجلان قدره السيزيفي، حيث دار دورة طويلة من سوريا الى روسيا واليونان ونيروبي الى أن انفردوا به في سجن"ايمرالي" مكبل اليدين ومحصوراً في سجن هرب منه طويلاً، هل كان هذا قدراً معاكساً أن يقضي ناظم حكمت مدة من محكوميته كما قضى يلماز غوني وأن يفلت أوجلان (جوبان) الواقع الكردستاني من السجن لينتهي به القدر المعاكس مسجوناً بعد دورة طويلة من الهجرة والنضال؟

وماذا عن قدر أحمد كايا، الفنان، الشبيه بقدر يلماز غوني في هجرته من واقع التركوية الى الوعي بالذات الكردية؟ وماذا عن تجرية نظام الدين أريج الفنان المتمكن الذي أشتهر بلقب فقي طيران.

خاض كايا جولة من الاصرار على حقيقته الكردية، فقاطعه الوسط الفني المستشرب بالافكار الشوفينية وصوروه إرهابياً منبوذاً بعد أن كان بطلهم المفضل، حيث كان جزءاً من المشهد الغنائي التركي.

تقبل الوسط الفني المخملي يسارية كايا وخصوصيته ولكنه لم يتقبل ولو لحظة كرديته، فأستقر مثل يلماز غوني في باريس، حيث قضى ربيعاً قاسياً لينتهي مثله، مثل ابطال الحرية من أحرار كومونة الى الدكتور عبدالرحمن قاسملو ويلماز غوني، كان اللفظ القاسي للوسط الفني جرحاً عميقاً في قلب كايا وظل يستذكره كلما قدم كونسيرتاً أو حفلاً غنائياً في منفاه الأوروبي، صحيح أن الكرد والترك والأوروبيين احتفوا به وأحاطوه بحب وتقدير مثل الذي أحيط بها غوني، ولكن جرح كايا ظل ينزف الى أن صرعه لأن كايا كان ضحية الفاشية الفنية ومناوئيها كان من وسط يفترض أن يعاديالفن رغم أختلاف مناهج القيمين عليه، بينما كان غوني ضحية الفاشية العسكرية والنظام الناكر للحقيقة الكردية، واللافت أن قصة كايا وهجرته الاضطرارية تكشفان عن واقع التراجع الذي أصيب به المجتمع التركي ونخبته الثقافية والفكرية، ورغم انفتاح التسعينيات كان يفترض أن يقضي الى جرعة من الشجاعة في اوردة النخبة التركية في التعاطي مع الحقيقة الكردية، إلا أن العلاقة الجنتلمانية في الوسط الفني لتركيا السبعينيات أفضل بما لا يقاس، اذا ما قورن بقصة أحمد كايا مع شلة الفنان عدنان شانسيز الذين هاجموا أو شتموا الفنان كايا لمجرد انه أعرب عن رغبته في الغناء باللغة الكردية، يتذكر متابعو محطات غوني في السينما التركية انه عندما فاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان السينما التركية منتجع قرر انقلابيو 1971 أن يحجبوا عنه الجائزة و قرروا منحه للفنان التركي المشهور جنيد أركان الذي عرف عراقياً وتركياً بلقب"البطل الغازي". كان جنيد حبيب السينما الرسمية حيث داعب مخيلة القوميين الأتراك بأفلامه عن القائد "التركي" صلاح الدين الايوبي وعن شمس التحرير التي ستشرق يوماً ما من بلاد الطوران في آسيا الوسطى حيث تنكسر أغلال العبودية. ومع هذا فأن أخلاقه الرفيعة منعته من أن يكون البطل البديل الذي سيحظي بجائزة هو ليس أهل لها، فقال جنيد بشجاعة وأباء "إن الذي يستحق الجائزة هو غوني وفيلمه، وهو يرفض أن يتقلد وساماً يستحقه زميل له في المهنة.. فتأملوا.