في الجزء الثالث بينا تجاهُل "مسالة الاقليات" من قبل (أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية)الموالية للنظام و المقادة من قبل حزب (البعث العربي الاشتراكي) الحاكم. في هذا الجزء (الرابع) من البحث سنتناول مقاربة (الأحزاب السورية المعارضة)لمسالة الاقليات. رغم أهمية وحساسية قضية (الاقليات الاثنية والدينية) وارتباطها بشكل مباشر بقضية الديمقراطية والحريات السياسية، بقيت هذه القضية، مهملة ومنسية، من قبل مختلف القوى والحركات السياسية السورية ، حتى سنوات قليلة من تفجر الأزمة الراهنة في آذار 2011. (التظاهرات الكردية )على خلفية أحداث ملعب كرة القدم في القامشلي (آذار 2004 ) وسقوط ضحايا أكراد برصاص قوات الأمن السوري، ثم (التظاهرة الآشورية) في تشرين الأول من ذات العام في مدينة الحسكة احتجاجاً وغضباً على مقتل آشوريين بسلاح ضابط سوري، شكلت بتفاعلاتها ومضاعفاتها السياسية والمجتمعية، منعطفاً كبيراً في مسار "قضية الأقليات" في سوريا. تلك الأحداث المأساوية اخرجت مسالة الاقليات من دائرة المحظورات ودفعت بها الى سطح الحياة السياسية،لتصبح جزءاً من (الهم الوطني العام)، ومحوراً لكثير من نشاطات وفعاليات المعارضة والقوى الوطنية السورية ولجان حقوق الانسان والمجتمع المدني . لكن من غير أن تقدم أحزاب المعارضة حلول ومخارج وطنية ديمقراطية ناضجة لحل مسالة الاقليات والتعددية الثقافية واللغوية، التي يتصف بها المجتمع السوري. بقيت رؤية مختلف قوى وأحزاب المعارضة، لمسالة ( المكونات السورية الغير عربية)، قاصرة وضبابية ترتكز على بعض مفاهيم حقوق الانسان وحقوق المواطنة. خلت برامجها وموضوعات مؤتمراتها العامة، من مقاربة وطنية واقعية و متكاملة لمعضلة الاقليات، واقتصرت أدبياتها السياسية على بعض الحقوق الثقافية للأقليات ومنح الجنسية السورية للمحرومين منها.

أبرز كتل المعارضة السورية، يأتي "التجمع الوطني الديمقراطي" تأسس عام 1979. ضم العديد من الأحزاب والتيارات السياسية ( حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي)، (الحزب الشيوعي السوري/ جناح رياض الترك - تحول الى حزب الشعب الديمقراطي) ، ( حزب العمال الثوري العربي)، (حزب البعث العربي الاشتراكي الديمقراطي) ، (حركة الاشتراكيين العرب). هذه الأحزاب انشقت عن أحزاب (الجبهة الوطنية التقدمية). لهذا مواقفها ،من مسألة الاقليات، لم تبتعد كثيراً عن موقف أحزاب الجبهة. ففي الوقت الذي تحتج وتعترض بشدة أحزاب المعارضة على مواد في الدستور السوري مثل(المادة الثامنة) "حزب البعث قائد الدولة والمجتمع"،- قبل الغائها في دستور 2012- التي تُشرعن الاستبداد السياسي وتكرس احتكار البعث للسلطة،نجدها(احزاب المعارضة) تلتزم الصمت حيال مواد وفقرات (طائفية –عنصرية)في الدستور السوري، تميز صراحة بين المواطنين السوريين على أساس الدين والقومية وتنتقص من حقوق شرائح ومكونات أساسية في المجتمع السوري. كـ"الفقرة الثالثة"، تمسك بها النظام في دستوره الجديد، تقضي بأن يكون "دين رئيس الدولة هو الاسلام... الفقه الاسلامي مصدر اساسي للتشريع..". سكوت أحزاب المعارضة على هذه المواد والفقرات الطائفية ،المنافية لمبدأ حقوق المواطنة والعيش المشترك ، يثير الشكوك بموقفها من قضية الديمقراطية ومشروع "الدولة المدنية- دولة المواطنة". 

حزب (الشعب الديمقراطي السوري)، اكتفى في البرنامج السياسي لمؤتمره السادس 20 / 12 / 2001 بالمطالبة بـ: "الحقوق الثقافية للأكراد السوريين، وحلّ مسألة المحرومين من الجنسية، وتلك المتعلّقة بحقوق المواطنة الكاملة، لهم ولجميع الأقلّيات القومية أو الدينية أو المذهبية. استعادة أصحاب الحقوق من الأقليات القومية لحقوقهم في مسائل الجنسية وتعلّم اللغة القومية، وفي التعبير عن ثقافتهم و تأسيس مدارسهم ومؤسساتهم الثقافية الخاصة..". موقف حزب (الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي) من (قضية الأقليات) جاء في سياق رؤية الحزب "للتغير الديمقراطي في سورية" المنشورة على موقع الحزب ، تقضي بـ "احترام حقوق الأقليات انطلاقاً من أن الديمقراطية لا تقوم على احترام حقوق الأغلبية فحسب وإنما على احترام حق الأقلية بالاختلاف، وإتاحة المجال لها للعمل والحركة والتعبير بما لا يتناقص مع حق الأغلبية بتطبيق برنامجها". أنه موقف ملغوم ومبهم ،يشرعن للأغلبية العربية مصادرة حقوق وحرية الاقليات، بذريعة تناقض حقوقها مع حقوق الاغلبية العربيةوالاسلامية. الحزب يستنسخ (القاعدة الاسلامية) في سن الدساتير " على أن لا تُسن قوانين تتعارض مع مبادئ وروح الشريعة الاسلامية". ورد في رؤية الحزب "إن حقوق الأقليات تشمل الأقليات الأقوامية وفي مقدمتهم الأكراد" . استخدام تعبير "الأقليات الأقوامية " بدل "الأقليات القومية" تنطوي على نظرة عنصرية لغير العرب ، ونكران وجود قوميات غير القومية العربية في سوريا. فوفق العقيدة العروبية لحزب (الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي)فأن (الأكراد والآشوريين والأرمن، وغيرهم) هم مجرد "أقوام" لها خصوصيات ثقافية ولغوية، لا أكثر. (حزب العمال الثوري العربي)- انشق عن حزب البعث العربي الاشتراكي ، في المؤتمر القومي الثامن 1965- يقر هذا الحزب بظاهرة التنوع والتعدد القومي والاثني والديني والمذهبي واللغوي التي يتصف بها المجتمع السوري. وهو يعترف بأن هذه الظاهرة الحضارية، بدلاً من ان تكون نعمة وعامل غنى وقوة للمجتمع السوري، أضحت نقمة وعامل ضعف بسبب سوء التعاطي معها. لكن، وكما بقية أحزاب القومية العربية، بقيت رؤية (حزب العمال الثوري العربي) لحل قضية الأقليات، اسيرة عقدة شعاراته ومشاريعه القومية "الوحدة العربية". حزب العمال الثوري العربي، لا ينظر لمسألة الأقليات بمنظار "وطني سوري" وانما بمنظار "قومي عربي" مطعم ببعض المبادئ والافكار الماركسية. فالحزب يرى، " أن الحل الجذري لمعضلة الاقلياتيكمن في دمقرطة المجتمع العربي وتحديثه وقيام دولة عربية قومية ديمقراطية واحدة، تندمج فيها جميع الأقليات القومية والدينية" .

من خارج (التجمع الوطني الديمقراطي) المعارض، تأتي "رابطة العمل الشيوعي" نشأت عام 1976،من كوادر ماركسية راديكالية، من أبناء الفئاتالاجتماعية المسحوقة ، جلهم من الأقليات (علويون، مسيحيون، أكراد، اسماعيليون..). غلبة العنصر الأقلياتي في البنية التنظيمية للرابطة، انعكسعلى بنيتها الفكرية وعلى موقف الرابطة من مسالة الاقليات في البلاد. فقدتميزت (رابطة العمل الشيوعي) بمقاربتها لمعضلة الاقليات. بهدف استقطاب (الشارع الكردي) الى جانبها ، بالغت الرابطة في تناولها للقضية الكردية، برفعها شعار "حق تقرير المصير" لأكراد سوريا. كما تميز خطابها بالحدية وبشيء من التطرف السياسي تجاه حكم الأسد والنظام البعثي. الرابطة كانت السباقة من بين أحزاب المعارضة بالمطالبة بتغير النظام السياسي القائم في سوريا. على خلفية هذه المواقف والشعارات السياسية، تلقت (رابطة العمل الشيوعي) ضربات موجعة من السلطات الأمنية السورية. تعرضت لحملات اعتقال وملاحقة واسعة بين عامي 1977 و 1978طالت اغلب قياداتها وكوادرها، وعلى أثرها تفككت الرابطة واختفت عن الساحة السياسية السورية. 

في الجزء الخامس سنتناول رؤية "اعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" لمسالة الاقليات.

سليمان يوسف يوسف... باحث سوري مهتم بقضايا الاقليات​

[email protected]