بعد انسحاب الاحتلال العثماني من العالم العربي ظهر مكشوفا خاويا ومستباحا للاستعمار, يكابد ويلات صندوق باندورا من الجهل والمرض والفقر,وفي الوقت الذي كانت الأقطار العربية تتساقط الواحدة تلو الآخر تحت هيمنة الاستعمار, كان يافعي العرب يجندون في الجيش التركي.

والزائر لمنطقة شنا قلعة الواقعة على مضيق الدردنيل (هو الموقع الذي دارت فيه معركة جالليبولي الشهيرة والتي حسمت تاريخ تركيا الحديث وأوقفت زحف الغرب نحو أسطنبول) سيلمح بين الأضرحة و فوق شواهد القبور أسماء عشرات العرب من بنغازي والبصرة وعمان والحجاز , جميعهم بذلوا أرواحهم للدفاع عن الباب العالي بينما الاستعمار الغربي يلتقم بلدانهم .

 وقتها في وسط هذا المشهد المعتم ومض بريق القومية العربية , كفكرة مثالية وحلم جامح يلم شتات هذه المجاميع الهائمة من الخليج إلى المحيط , فكرة تقاوم التتريك والتغريب , و لعل ارتباطها بميشيل عفلق يحيلنا إلى إمكانية كونها مظلة لمسيحي الشرق ترتفع بهم من درك الأقلية إلى منزلة المواطنة المكتملة داخل دولة مدنية حديثة. 

وظلت في أروقة الحلم والشعار إلى أن وضعت بريطانيا العظمى لمستها على المشهد عبر خطاب وزير الخارجية البريطاني إيدن في مجلس العموم 1943 المؤيد للفكرة والداعم لها , عندها ومن من القاهرة تحديدا تأسست كجسم إداري يجمع الأقطار العربية تحت مظلته .

لكن هذه الفكرة العذبة الرومانسية التي كانت تلوح بوحدة التاريخ واللغة والأرض المشتركة , كانت غضة وغرة واستجابت لإغواء العسكر , والذين حولوها إلى أيدلوجية صارمة وهراوة تلوح في وجه أي تبرعم مدني يحبو باتجاه الدولة المدنية الحديثة, فداخل الثكنة وهيمنة الأوامر , من الصعب إعمال منطق العقل والسؤال وهما القادح الأول للحضارات. 

ومن هنا بدأ انحسار المد القومي وتلاشيه , وترافق هذا مع خلل وضبابية التأسيس فالبعض كان يطمح بوحدة عميقة ذات صيغة فدرالية أو كونفدرالية , بينما فضلت غالبية الدول على المحافظة على استقلال الدولة مع التعاون والتنسيق في الشؤون السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية , لكن هذه الحمولة الثقيلة , وجدت مقاومة عنيفة من المكون الرجعي داخل العالم العربي , الذي يتبدى عبر حكم الاستبداد والتغلب, والعقيدة والغنيمة , والتهام الفقه لجميع النشاط الفكري المبدع والخلاق.

اليوم مع القمة العربية 29 , والعالم العربي لايبدو في أفضل حالاته , بدأ الحلم يجرب بوصلة جديدة , تتخلى عن أرض الشعار , وتتجه إلى أرض الممكن , لاسيما إنها القمة التي استعادت القضية الفلسطينية إلى بؤرة الاهتمام العربي , بعد أن أطلق خادم الحرمين الملك سلمان عليها قمة القدس ودعمها بتبرع سخي.

التواشج والتكامل العربي هو أمر قدري ملزم , لذا لنحرره من ربقة السياسة ونبحث عن المشترك الاقتصادي التكاملي والثقافي , المشترك الثقافي وعاء هائل حاضن للفنون والآداب المدعومة بالتعددية والثراء والتنوع , الذي سيهدم عشرات الجدران التي لطالما رفعتها السياسة.

الوحدة العربية هي زورق نجاة في بحر أطماع متعددة بالمنطقة والترك والفرس فاتحي أشداقهما بشهوة الأحلام القديمة , والدول الكبرى لايعنيها في كل هذا سوى مصالحها والمراقبة عن كثب للصراع , حتى تتحالف مع المنتصر.