"بمناسبة مرور سنة ثقيلة مثل جبلٍ أجرد بشهورها وايامها وساعاتها ودقائقها وثوانيها على موت قرينتي "

عادة ما يشعر المرء بالحزن والقنوط والتجهّم اذا مرت عليه ليلة ليلاء اوكما يسميها العرب ليلة نابغية بطيئة الكواكب ؛ فكيف بي وانا الذي مررت بسنة عجفاء قاحلة من الحنوّ والمرعى الخصب واللقمة السائغة والدلال المبهج وأظل ساهما أتعجب كيف قضيت كل هذه الاياموالليالي وحدي بلا رفقتها وهدأتها وحتى ضجيجها وضحكتها وبكائها .

فجر اول يوم رمضاني من العام الفائت عزمت ان تودعني زوجتي وصديقتي وحميمتي الى الابدية ، أحسستها وهي توشك ان تقترب من أجلِها ؛ لم تعبأ بنوازع الاحتضار ولم تدِرْ بالاً برجفة النزع الأخيروآلتْ بعناد أعرفه منها ان ترفع كفّها لتودعني وكأنها تلوّح لي انحياتك ستكون سلاسل ومقطورات من الجهشات والمنغصات والكدر والمرارات والجهمة ، انا الذي شببتُ على حبها ونضجت على رعايتها وهرمت على حنانها وصبوتها .

كانت كما هجستها اول اقتراني بها نافذتي وشرفتي المشرعة بنسائم العذوبة ، لم يضقْ صدري يوما ما بثقل زفيرها وخناقها وبقيتْ ظلاً ظليلاً باردا في قيظي ودفئا استشعره في شتائي وهي تطلع بثراء شعاعها المضيء وتنير مضائق وظلمة المسالك وما أكثرها في بلادي المكفهرّة في الغالب الأعمّ .

وظلّت تحوي في قلبها الساخن حباً تُذيب أكوام الثلج وجفوة العلاقة الحميمية لو تجمعت وانتشرت في زوايا البيت ، وتمتد يدها لتركز عماد البيت وتثبت وتدَه ايام وليالي العواصف والرياح الهوجاء .

افتقدتُ غمامك الحاني حينما يظلل بيتي ونسلي ويغدق علينا فيئا وافرا ونثيثا من عطر رعايتك ، أتحسس يدي فارغة بلا أصابعك التي تشبك كفي وأجول في غرف البيت أفتح خزانة ملابسك فتصدمني عطورك المرصوفة بإمعان وتسألني عن يدك التي كانت تنتقي قواريرها وفقا لأجواء الصباحات والمساءات ، تلك المكحلة الحزينة المنزوية تناشدني وتتوسل ان تنوش رمشيها ولو بلمسة عابرة سريعة .

مرآتك العطشى تناشدني لترى طلعة وجهك يوم كانت تتراقص فرحا حين تلتقيان وهي الان تسوّد قتامة وجهمة اكثر اسودادا وحلكة .

أحمر شفاهك الذي غدا دما عالقا لا يدري اين يغمس فرشاته .

تعليقة وشاحك القرمزي المزين بالفراشات الجميلة وهي تُمنِّي انتغطي خصال شعرك الفاحم وتزينه بهجةً وجمالاً .

بتّ ادور في ارجاء البيت طقسا يوميا مثل زائر هائم بضريح عزيز له يترقب أملا غائبا محال ان يتراءى امامه ويوهم نفسه بإيماءة كاذبة .

أتعثر بحطام الذكريات فيوقعني انا المعنّى الخالي من العكاز والسند والسائر في هشاشة العمر الرخو المائل الجدار .

أدخل مطبخي لأسدّ رمقي ببضع لقيمات فاستشعر نكهتك وأطايب ماتصنعين من الحلوى ولذائد المقبلات والمطيبات والمثلجات فلا تنطفئ باديتي العطشى اليك ايتها الرواء والدواء والشفاء والسخاء والعناء معاً .

بعض الأحايين اغفل عنك وانا في غمرات انشغالاتي قراءة وكتابة فتثيرني جهشتك وانت في خضم السقم الذي أودى بك بعيدا عني وعن نسلك واحفادك .

وحالما انعس قليلا ناشدا غفوةً تهدئ بعض روعي فأرمق جسدك يدنو مني ويزاحمني سريري ويكاد يطيح بي ارضا

أقوم في الصباح لأعيد ترتيب لوازمي وقراطيسي المبعثرة ونثار اوراقي المرمية هنا وهناك فأرى يديك تلملم مبعثراتي وتفتح ستائرالنوافذ طلبا للتهوية واشعة الشمس كي تستقر في مأواي العابث .

اعمل قهوتي الصباحية فاتذوقها مريرة بطعم العلقم وأخال الصباح يحزم حقائبه مودّعا وكأنه يهوى الرحيل الى جوارك ويومئ لي بسخرية ويقول لي انك سوف لا ترى اشراقتي بعد الان وعليك ان تسدل ستائرك طوال نهاراتك ولياليك لترى جدائل حبيبتك السوداء عسى انتلاعبها بأناملك المرتعشة ولتذهب لسقاية ورودك في حديقة بيتك الصغيرة لتشعر برواء وعذوبة حبيبتك الظامئ اليها .

حين يحين موعد استرخائي ويغلب عليّ نعاسي أتجرد من ملابسي فإذا جلدها يتلبسني وتلامسني بذهولها وسقامها ، تطاردني في صحوتي ونومي ؛ في جلجلتي وهدأتي ، في شرودي وفي صحوتي ، في حلّي وترحالي ، مكوثي ورحيلي ، فرحي وحزني ، قلقي وسكينتي .

ما انت ايتها الكائنة الانثى التي لا تبرح مخيلتي !!.

لا أخفي اني عاشرت اجمل النساء واكثرهن سحرا وسخونة ولم ألقَ حرارة سائغة لي مثل دفئك !!

ذقت أطايب الخمرة عتيقها وجديدها ، نزلت أقبيتها فلم اجدها مسكرة كشفاهك .

شممت النسائم عبيرها وبحرها وبرّها لكنها لم تكن توسع صدري مثل أنفاسك .

عركتني الحياة ، قذفتني المنافي بعيدها وقريبها واحتوتني السجون وعنابرها وزنزاناتها المكتظة والانفرادية ؛ لم اجدها مريرة كفراقك .

خذي هذه البقايا مما كتبت شعرا فيك يوما ما لعلها تقربني منك لقاءً قريبا لا وداعا وحتما سوف أجيء مشوقا لاهفا .

أراكِ ارتحلتِ بعيداً !!

أهذا الوداعُ الأخير ؟

ولكنّ عطرَك لامسَني في المساء

واعتراني كذكرى الفتوةِ

يلتفُّ بي كالوشاحِ الذي ظلَّ ابيضَ

منذُ اشتريناهُ قبل المشيب 

منذ كنّا صغار

وصيّرني عاشقاً رعشَ القلبِ

حاني اليدين

تذكرين الدروبَ التي ضيّعتْنا؟

وكنتِ دليلي ، مساري الأمين

وحين يُشتتني العمرُ

صرتِ يدي وعكازيَ الصلبَ في الطُّرقات

حائطي ، سنَدي حين طاحَ بيَ المخبرون

ومتَّكأً لشيخوختي حين تغادرُني قُوتي

كنتِ سقفاً حماني ، من لصوصِ النهار

من لصوصِ الجنون

من ندامايَ أيام عشتُ المجون

ومن قاذفي الرعدَ والبرقَ بالمنجنيق

أريدكِ إطلالةً دائمةْ

أطلّ على أصدقاءِ الزمانِ الجميلِ الحنون

أرى شرفتي، شهقات القصيدةِ تسلب لبّي

أريدك حرْزاً يصونُ وجودي

تميمةَ عمري الذي ضاع بين الشكوكِ وبين اليقين

وبين الطّهاراتِ والموبقات